سنة 2022، في زمانها اللبناني، سنة متواصلة، فهي تتابع السير على جادّة أيام السنوات السابقة، وتشرف على اتصال بقادم من السنوات، قد يواصل سياقه التواصلي المعروف لبنانيّاً، المفتوح على أن يكون زماناً متصلاً.
حسب التعريفات، التواصلي "حركة ذات ابتداء، وذات انتهاء، والمتّصل زمن لا انقطاع له". إذن في اللجوء إلى الزمن التواصلي حرص على إبقاء نافذة الأمل مفتوحة، وهذا من بنات الواقع الذي لا يعرف ثباتاً، والأمل المرجو، والضروري لدى المعاينة الواقعية، يخالف ما يليها، ربما كان للبنان عام يحمل معنى الخير وفرح البشارة. هذا ما حملته العرب عن سنينها، وعن أعوامها، ومن جملة زمانها الذي طغت على حقباته السنوات العجاف.
بالعودة إلى يوميات السنة الثقيلة المقام، تحضر صورة الواقع العام، المحلي والعربي والدولي، المرسومة بالخيبات المتعددة. لا يقتصر أمر الخيبة على الشأن السياسي العام، بل يتعدّاه إلى المعاني الثقافية والأخلاقية، وإلى جملة من الشعارات العالمية، التي جرى التعامل معها كمسلّمات "إنسانية" عمومية، فتكفّلت أحداث كبرى بتعريتها من الغلاف الإنساني، الأخلاقي، لتظهر بالتالي، على حقيقة جوهرها "النفعي"، الذي لا يتقدم عليه أيّ جوهر من جواهر الأفلاطونية، أو الثورية، أو الدينية، أو المبادئ الحضارية، التي رفعت رايتها البشرية بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، ومن ثمَّ بعد كل الحروب الأهلية والعالمية.
خيبة عالمية
لقد قدَّمت الحرب الروسية في أوكرانيا الدليل الأسطع على زيف "العالمية"، وفوق مسرح الصراع وضمن ميادينه، بَانَتْ حدود العولمة التي لم تكن مصدر ربح للجميع، كما أشاع مروّجو شعاراتها، وكما ادّعى منظّرو سياساتها. لقد سبقت حروب كبرى شكَّكت في صحة التزام المُعْلنُ الدوليّ بإعلاناته، أبرز تلك الحروب دارت فوق أرض فيتنام، وفي شبه الجزيرة الكورية... وأبرزها في محيطنا القريب، انفجر في أفغانستان، والأخطر منها كان الدمار الذي نزل بفلسطين أولاً، ثم بجوارها العربي، ثمّ بالعراق... الذي ما زال يعاني من آثار الحرب "العالمية" التي نصّب أصحابها أنفسهم قادة لتعميم الحضارة والديمقراطية.
لن يكون مجدياً السؤال عن حقوق الإنسان، وعن شرعة الأمم المتحدة، وعن المواثيق الدولية... ولن يكون ذا نفع مطالبة "الغرب" عموماً، باحترام خلاصات عصور نهضته وتنويره وإصلاحاته، الجواب جاهز، ومضمون الجواب لن يتعدّى فلسفة التبرير، ولن يتجاوز سياسات الانتقاء، وستحكمه دائماً مصالح الاختيار.
لقد ظنّ كثيرون، وهم على حقّ في ما يظنّون، أن الحقوق صارت إنجازاً داخليّاً حصريّاً للغرب، وأن "الإنسانوية" مُوَطَّنَة في مركز إعلانها، وأن نصيب الأطراف من الحضارة الجديدة، "قِيَمُ" الاستهلاك، وسياسة السلع، وممارسة "التسليع"، فإذا سأل سائل عن "أفهوم" الجمال مثلاً، جاء الجواب في صيغة مستحضرات التجميل. لقد باتت المعادلة: مركز منتج، يحرص على أن يظلَّ منتجاً، مهيمناً وينافس على احتلال صدارة الإنتاج والتسويق والتصدير، وأطراف مستهلكة يحرص المنتج على بقائها في مركز الاستهلاك، وفي جعلها امتداداً لمركزيته الصناعية والتجارية، عندما يُرحِّل إليها خطوطاً مختارة من منظومة الإنتاج.
خيبة في الجوار
وضع القرن العشرون حدّاً للشعارات الكبرى التي أطلقتها قضايا كبرى. في المحيط العربي، وفي الجوار الإقليمي، ذَوَتْ عربيّاً مسائل العروبة والأمة، وتقادمت مسائل الصراع مع الإمبريالية والصهيونية، وخَبَتْ أنوار ثورات التحرير والتحرّر، ثم انطفأت مشاعلها.
ما كان يرتجى من كل تلك القضايا "النهضوية" والاستنهاضية، لم يصل إلى أكثر من قيام أنظمة تولّت التفريط بالإيجابي من كل قضيّة، ولم يستمرّ إلا في سياسات مصالحة مع عدوّ الأمس، الذي صار صديق اليوم، وقِبْلَة الساعين إلى نيلِ "بركة" دياره. جردة معلومة لكل المصائر الثورية والتحرّرية، تضع القائم بها أمام خلاصة موضوعية تثير النقاش الاسترجاعي حول سؤال: ما الأفضل عربيَّاً، الأنظمة التي بَادَتْ، أم الأنظمة التي ظَفَرتْ باسم الثوريّة، فسَادَتْ؟ لن يكون الجواب سهلاً إلا على الذين يركبون إلى الاسترجاع والمراجعة، مركب الاستسهال.
في تواصل مع القرن العشرين، أكملت عقود القرن الواحد والعشرين كتابة نصّ الخيبة، العربية والإسلامية. ففي البلاد العربية، صعدت الإسلامية في فترات "الربيع العربي"، مدعومة من الذين كانوا في عداد الأعداء. توسّلت الإسلامية وسائل "الثورية القومية"، المادية والشعارية، لكنها انتهت إلى ما انتهى إليه أسلافها من "التقدميين".
إذن تجتمع اليوم في المساحة العربية خيبة مزدوجة، قومية وإسلامية. هذه الخيبة الداخلية تمتدُّ لتضيف إليها خيبات الجوار الإقليمي الذي ألْبَسَ الثورة إسلاميته، في إيران أو في أفغانستان، وفي نسخة قريبة شبيهة في باكستان... فلم تكن النتائج مغايرة لما عرفته البلدان العربية.
على سبيل المقاربة، لقد أنجز المركز الغربي، تقدّماً حضاريّاً، ثم أخفق في تطوير الإنساني التقدمي من ذلك الإنجاز، وسلك العربي والإسلامي طريقاً معاكساً، عندما سعى إلى استرداد زمن حضاري سالف، فسعى لإحيائه بأدوات الماضوية التي عَفَتْ عليها الأيام. يجتمع المثالان، الغربي و"الشرقي" اليوم، في ساحة الشعارية، ويختلفان في الانتساب إلى زمنين مختلفين. الديمقراطية الغربية نالت منها اليوم الشعارية، وتكاد تكون "إيديولوجيا" تشترك مع الإيديولوجيات المتقادمة في جوانب إيديولوجية عديدة، ليست الشمولية جانباً وحيداً منها. لكن ما يجدر الانتباه إليه، هو أن الصراع بات مموّهاً من قبل الشرقي والغربي، والدعوة إلى الحضارة من هنا ومن هناك، يقتصر دورها على "تعبئة الجمهور، وشحذ هِمَمِ الأتباع"...
نكاد نقول إن ما نسمعه وما نقرأه، صادر عن إيديولوجيا بربطة عنق، وإيديولوجيا ترتدي ثوبها التراثي، لكن أهداف السياسة غير غائبة عن "النظرتين".
خيبة لبنانية
التوسّع النسبي في عرض جوانب من الخيبات الخارجية، غرضها وضع المحليّة اللبنانية أمام خيبتها الخاصة. لا يبدي الطيف اللبناني المتعدد الألوان، استجابة للوقوف على حقيقة وضعه في مرآته، بل في مرايا الآخرين، ولعل هذا الطيف يستمرئ استعراض فرادة ألوانه غير الفريدة، ويصرُّ على اعتناق خليط سرديّات يغلب عليها التعالي الأجوف، ويقودها الصَلَفُ الذي لا يقف على أرض حقيقية ثابتة. كل ما هو في لبنان رجراج، ومتحرّك، وما ظنّه المتصارعون ثباتاً، في الزمان أو في المكان، لم يكن إلاّ تثبيتاً بفعل فاعل، كثيره خارجي وقليله داخلي لم يستقلّ يوماً عن الخارجي.
وتجنّباً للإطالة، وبعيداً عن الاستطراد، تفرض قراءة العالم وقراءة المحيط، الانتباه الشديد، والموضوعي، إلى أن نصوص لبنان الرسالة ولبنان الجسر بين شرق وغرب، ليس لها مرادف في المعاجم الدولية ولا العربية ولا الإسلامية. هذه حقيقة صادمة، وما قد يصدم المحليّة اللبنانية أيضاً، هو أن النصوص الخارجية تذكّر دائماً أن لبنان مساحة نفوذ، ومكان سياسات، ومصدر توظيف... مثله مثل سائر البلدان، أمّا خصوصية كل سياسة حيال الداخل اللبناني، فمصدرها الخصوصية التكوينية الأصلية للبنان، مما يأخذه الخارج على محمل التدقيق، فيبني طلباته ومآربه على واقع الخصوصية. في جانب التدقيق هذا، يخالف الداخل دقّة الخارج، فيبني استدعائه لدعم، أو طلبه لمؤازرة، على ما يختزنه من آمال وطموحات، وعلى افتراضات لثقلٍ إنساني للتجربة اللبنانية في ميزان "العدل العالمي"، فتكون الحصيلة خيبة فئوية أحياناً، وخيبة فئويّات في أغلب الأوقات السياسية.
على هذا الصعيد، تكتسب الخيبة تعريفها، فهي "عدم تحقيق ما كان يُرجى"، وإلى التعريف يضيف الواقع الخارجي الحقيقي، غير المتوَهِّم، تخييب اللبنانيين، أي تخسيرهم وإفشالهم وحرمانهم مما كانوا يحلمون بالحصول عليه.
بين خيبة وتخييب، تمكث حقيقتان، الأولى قيد النظام الذي صار نظام خيبة، وقيد المراجعة التغييرية التي ما زالت تحبو على بساط الأحلام.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها