السبت 2022/12/03

آخر تحديث: 08:11 (بيروت)

المعارضة في مواجهة قضاياها

السبت 2022/12/03
المعارضة في مواجهة قضاياها
سِمَةَ الداخلية، كانت متقدمة على سمة الخارجية، في تكوين المعارضة (مصطفى جمل الدين)
increase حجم الخط decrease

مراجعة شؤون المعارضة اللبنانية تقتضي فتح كتاب مسارها الداخلي، وتطرح ضرورة التدقيق في كافة فصوله. يحيل استرجاع السيرة إلى التاريخ اللبناني منذ النشأة، أي بعيد إعلان لبنان الكبير، ويتضمن حقبات ما بعد إعلان الاستقلال الوطني، ليطلّ على أحوال المعارضة في راهنها، ولتكون الخلاصات المتوالية، من التاريخ الواقعي للحركة الشعبية اللبنانية، من العوامل المساعدة على قراءة ممكنات الحالة الاعتراضية المستقبلية.

لبنانية المعارضة
قد يتعذّر الحديث عن معارضة سياسية لبنانية صافية، فهذا غير دقيق، واقعيًّا، بسبب من تداخل السياسات الخارجية والداخلية، على وجه عام، وبسبب من طبيعة "الكيانية" اللبنانية، التي اسْتَوَتْ كيانًا،على وجه الخصوصية التكوينية المعروفة... لكن يبقى الممكن والواقعي، من القول في المعارضة الداخلية، هو ذاك الذي ينظر، وبعين سياسية مدركة، إلى عناصر قوة المعارضة، المستمدة من داخل البنية الاجتماعية - الأهلية، وينظر، في عين اللحظة، إلى عناصر الدعم الخارجية، التي تضيف إلى جسد المعارضة "شَحْمًا"، أو "وَرَمًا" يحسبه الرائي العابر، شَحْمَ بُنْيَةٍ وصلابة بُنْيَان.

الإشارة إلى اجتماع الداخلي المقيم في المعارضة، وإلى الخارجي الوافد إلى محفل اجتماعها، تشرع الباب أمام مسألة معاينة التوازن بين، الداخلي والخارجي، وإلى تبيان حركة كفتي ميزان  المعارضة الداخلية، توازنًا أو اختلالًا، وهي تدير معاركها السياسية العامة.

عليه، ومن القراءة استرجاعيًا، أو تاريخيًا، تحضر نقطتان تستوجبان النظر فيهما: النقطةالأولى، هي أن سِمَةَ الداخلية، كانت متقدمة على سمة الخارجية، في تكوين المعارضة الداخلية، وفي إدارة سياساتها الاحتجاجية... والنقطة الثانية، هي أن "اللمسة" الخارجية، وألوانها العديدة، باتت أوضح في لوحة المعارضة، بعد نيل الاستقلال سنة 1943، وعلى امتداد الحقبات المتوالية، تشابهًا وتشبيهًا ومشبّهًا به، منذ ذلك التاريخ.

النقطتان المشار إليهما، تساعد في جلائهما قراءة تاريخ الأحزاب اللبنانية، التي تأسست بعد سنة ١٩٢٠، سنة لبنان الكبير. ففي ذلك التاريخ اجتمعت مرجعيات نظرية مختلفة، واجتمعت سياسات حزبية، بعضها كان على مسافة ابتعاد من السياسة الخارجية، وبعضها كان قريبًا منها، أو ملتحقًا بها، وداعيًا إلى القبول بإدارتها للشؤون الداخلية اللبنانية.

اختلاط أمور المعارضات
دخول العوامل الخارجية على خطوط أطياف المعارضة السياسية، لم يكن دخولًا عملانيًا ماديًّا فقط، بل كان دخولًا "فكريًّا نظريًّا" أيضًا، وبمقدار ما دَعَمَ التدخُّلُ العَمَلاَنيُّ الخارجي، مناصريه ماديًّا، كانت مقادير التسويغ، النظري والسياسي، مواد تعبئة نضاليّة، ومرجعيَّات اعتقادٍ لا يُخَالِطُ صَوَابَهَا شَكٌ ماديّ، ولا يعرقل الإيمان بتحقق حتميتَّها، ما يُواجه سيرةَ وصيرورةَ الاطمئنان الإيماني، من صِعَاب. لقد كان الدعم المالي مثلا، دعمًا محسوسًا تراه العين، وتلمسه الأيدي، وكان الدعم "الفكريّ" الجديد، مادةً متحرّكةً مَرْئِيَّةً في الأجساد، وقوةً دافعةً مسموعةً في هدير الأصوات. أمّا إعطاء كل شكلٍ تدعيمي خارجي، اسمًا محدّدًا، فقد كان أمرًا لبنانيًّا يَسيرًا، فمن جهة اليمين، يقف "الغرب الإمبريالي"، ومن جهة اليسار، تقف"المنظومة الاشتراكية"، وعلى ضفّتيِّ الاتجاهين، تقف أنظمة "عالمثالثيّة"، وبين الضفتين، تقافزت أنظمة قومية، تَحَدَّثَتْ عروبة واشتراكية ووحدة، ثم ما لَبِثَتْ أنْ غَرِقَتْ في لُجَجِ أنظمتها الفاسدة المهزومة البائسة.

لوحة الخارج المختلطة، المشار إليها، كانت لوحةً داخلية أيضاً، لكن ما ميّزَ لوحة عن لوحة، هو أن "الخلطة اللونية" الخارجية، كانت على درجة ملموسة من وضوح الحدود والأبعاد والأهداف، وكانت الخلطة الداخلية بعثرة ألوان، طغت عليها رمزيّات موروثة، وشعاريات مُحدثة، بحيث ضاعت الحدود بين سوريالية اللوحة، وبين انطباعيتها وتجريدها... وبعد هذا، وفي سياقه، اعتنقت "الداخلية" عقائد، وحددت لذاتها أهدافا، وتمسكت بالدفاع عنها، فانقسمت حولها بينيًّا، ونأت عن الآخر اللبناني، الذي كان قد حدّد أهدافه هو الآخر، من موقع القسمة والتباين، وليس من موقع اللقاء المؤسس على قبول التنوّع في الوحدة الوطنية.

علانية العلاقة
العلاقة بين المعارضات الداخلية ومراكز دعمها، لا تشكّل مصدر إحراج لأصحابها. قد يكون ذلك من تجلّيات الفرادة اللبنانية في كل شيء، ففي هذا البلد، شعر غزير عن العزة اللبنانية، وفيه أهازيج بطولة، وطرب عنفوان، يحدث ذلك، والواقع لا يسند مطرباً، ولا يسعف شاعراً.
في المقابل، تقرع طبول البطولة الأممية، خاصة الاشتراكية منها، وتقرع طبول الأممية المحلية، خاصة الإسلامية منها، وتتوسط القومية العربية وأمجادها، الحفل الاحتفائي، رافعةً لواء محلّيتها، أو "أصالتها"، في مناوأة واضحة للأمميات الغريبة الهجينة.

مشهدية المعارضة الداخلية، ينضم إليها الخارج فيضيف إليها مشهدية مخاتلة، تتوسّل الهدوء سبيلاً إلى الأسماع، وتشهر شعاريات حقوق الإنسان والحرية، والقيم الفردية والأخلاقية الحديثة... وتنعى على القوى المحلية، التي لا تقول قولها، تخلفها، وتنسب إليها الخطر على السكينة الداخلية، وتتهمها بعرقلة خطط السير نحو العالمية "الأخلاقية" والاقتصادية.

تكذب معارضة الداخل، ويكذب داعم الخارج، ومن بين شقوق النصوص الكاذبة، تطل قضايا كبرى تفيد صغار "المحلّة"، فيعظم شأنهم إذ تعتنقوها، وتكون لهم الصفوف الأولى إذ ينطقون باسمها، ويحوزون السلطة والسلطان، بقوة الشعارية، وببريق الأهداف الموعودة، وبما يجنونه من سلطان مالي كحصيلة لإدارتهم السياسية الفاسدة.

فوات المعارضة
النموذج الحزبي اللبناني، ارتكز في الحقبات الأهلية الدامية إلى القضايا الخارجية الكبرى. القوى اليسارية مثال على ذلك، فهذه اكتسبت وزنها الداخلي الأهم من بعدين: اشتراكي وقومي عربي.
القوى اليمنية، كان لها خارجها الخاص، الذي يجمع بين العربية والأجنبية، لكن شعاراتها ظلت محلية، وهي واجهت المافوق الوطنية القومية والاشتراكية، بمزيد من المحليّة التي لامست "الضيعوية". كان الأمر مفهوماً، وما زال، ففي مواجهة خطر الاندماج في العمومية، ينحو الفرد أو المجتمع الأهلي منحى شديد الخصوصية، لذلك تعمّم الطقوس، ويمجّد الماضي، وتتصدّر الأزياء، وتسود الفولكلورية، كل ذلك في مواجهة العناوين الكبرى التي تنطوي على عالمية في مكان، وعلى قومية في مكان آخر، مما يدرجه الخائفون في خانة الإلغاء وطمس الشخصية الكيانية.
في الراهن، بعد حقبات من التراجع السياسي والاجتماعي، خفتت قناديل القضايا البرانية، وفي مواكبتها انطفأت قناديل الحزبيات التي استعارت أضواءها. هذا يقود إلى أسئلة مثل: كم كانت المعارضة اليسارية متجذّرة محلياً؟ وكم راودتها أوهام القوة، عندما استقوت خارجياً؟ وهل يمكنها اليوم الاستدراك برؤى أخرى، وبواسطة قضايا بديلة، تجعلها وطنية أكثر ومحليةً أعمق وخارجية بمقدار ما يقتضي الانفتاح والمصالح الوطنية العامة... هذا كي لا يكون فوات القضايا الكبرى مواتاً للأحزاب المحلية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها