الأربعاء 2022/12/21

آخر تحديث: 11:56 (بيروت)

أزمة نظام سياسي أم أزمة إدارة في السلطة؟

الأربعاء 2022/12/21
أزمة نظام سياسي أم أزمة إدارة في السلطة؟
لا خلاص أمام اللبنانيين في هذه المرحلة إلا بالخلاص من الفاسدين (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

أرسى دستور الطائف وميثاقه الوطني عام 1990 المرتكزات الدستورية الأساسية لإعادة بناء الدولة والنظام السياسي البرلماني الحر على أسس ديمقراطية، وعلى قاعدة مبدأ الفصل بين السلطات والتعاون فيما بينها في عملية إدارة السلطة في لبنان، وتغليب منطق التوافق الطائفي في القضايا ذات الأبعاد والمنطلقات السياسية الطائفية. فهل نجح السياسيون في لبنان بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في إرساء دولة القانون والمؤسسات التي نص عليها دستور الطائف؟ وهل تكمن المشكلة في عدم هذا النجاح في طبيعة النظام السياسي القائم أو بسبب سوء أداء السلطات السياسية منذ الطائف حتى اليوم؟

وطن مشرع الأبواب
لا يبدو من خلال التجربة والواقع أن اللبنانيين قد نجحوا في مشروع إعادة بناء الدولة على أسس دستورية سليمة، بالرغم من كثافة القروض والمساعدات الدولية للبنان، وإنسحاب قوات العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، مما خلق المناخ المؤاتي لتثبيت السلم الأهلي وإطلاق المبادرات للمشاريع الإستثمارية وتقوية السلطة المركزية للدولة والانفتاح على الخارج من أجل استقطاب المزيد من المشاريع الاستثمارية في لبنان.

أما في الوقت الراهن، فلقد بلغت الأزمات أشدها على مختلف الأصعدة في لبنان، وعجزت جميع المكونات السياسية للنظام السياسي في لبنان عن الاستمرار في إدارة تلك الأزمات بعدما تراجع تسيير المرافق العامة للدولة إلى أدنى مستوياته، وأخطرها المرافق الأمنية التي تحمي أرواح المواطنين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وتحافظ على الأمن العام والسلم الأهلي والنظام العام  في الدولة. وها نحن اليوم نقف على أعتاب وطن مشرع الأبواب أمام جميع الاحتمالات السيئة، من فراغ دستوري، وقضاء معطَّل وحكومة تعمل بالحد الأدنى لتصريف الأعمال، وشغور في موقع الرئاسة الأولى، وتفاقم في الأزمات المعيشية لا حدود لها ولا أفاق ملموسة، في ظل التدهور المتواصل في أسعار صرف العملة الوطنية تجاه الدولار الأميركي والعملات الأجنبية الأخرى، رغم لجوء السلطات الدستورية إلى إقرار بعض المساعدات الاجتماعية للعاملين في القطاع العام من مدنيين أو عسكريين أو متقاعدين، في محاولات يائسة لمنع الانهيار الشامل في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية، عدا عن انتشار الأوبئة وأشكال التلوث البيئي والجرثومي المتجددة، بسبب عجز الدولة عن إيجاد الحلول الناجحة في التصدي للأضرار البيئية ووضع حد نهائي لمسبباتها.

النظام المجلسي
وهكذا يستمر سوء الإدارة والتردي على جميع المستويات، في وطن كان بالأمس منارة للشرق، وكانت عاصمته تعتبر عاصمة الثقافة والحضارة في الوطن العربي، في وطن كان  يذخر بالحريات على اختلافها، ويتمتع باقتصاد مزدهر وبعملة وطنية ثابتة ومستقرة في وجه العملات الأخرى، في ظل التنوع الطائفي وتعدد الثقاقات واللغات والمهن ووسائل الإنتاج، وحاضناً مؤتمناً على ودائع المودعين في مصارف، كان أغلبها حتى بداية الحرب الأهلية عام 75 من المصارف الدولية أو فروع لها في لبنان.

إن نظامنا السياسي في لبنان، ذات المرتكزات البرلمانية، اتجه بعد مؤتمر الطائف نحو النظام المجلسي، حيث جرى تفعيل عمل اللجان البرلمانية المتنوعة، واعتماد مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان ومجلس الوزراء ووظائف الفئة الأولى بموجب دستور الطائف وميثاقه الوطني، والذي تضمن نصوصاً ومواداً تمهد للتخلي عن الطائفية السياسية في إدارة السلطة بصورة متدرجة، وإنشاء مؤسسات دستورية رديفة، كمجلس للشيوخ وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان، بموجب المادتين (22 و95) من هذا الدستور، بالإضافة إلى إعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة في تولي الوظائف العامة وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة، وإعطاء الدور الموضوعي على هذا الصعيد للأجهزة الإدارية والرقابية المركزية، وتسهيل عمل القضاء واستقلاله عن السلطة السياسية أو التنفيذية، تمهيداً لقيام الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية، التي يعيش في ظلها جميع اللبنانيين في ظل تكافؤ الفرص، والمساواة أمام القانون، والإنماء المتوازن من دون أي تمييز بين المناطق أو الطوائف، ومن دون التعرض لأي من حقوقها المتوازية، وتشجيع قيام لامركزية إدارية موسعة، تساهم في إطلاق مبادرات المجتمع الأهلي لتأمين احتياجاته المحلية والتصدي للمشكلات الحياتية على اختلافها، من مالية وصحية واقتصادية وبيئية وتربوية وإنمائية مختلفة.

طبيعة الطبقة السياسية
لكن وللأسف، لم يجر العمل على تحقيق أهداف مؤتمر الطائف الجوهرية، والتي دفع ثمنها اللبنانيون غالياً أثناء الحرب الأهلية، التي استمرت زهاء خمس عشرة سنة متتالية. وتبرز الحقيقة هنا في طبيعة الطبقة السياسية التي توالت على إدارة السلطة منذ مؤتمر الطائف حتى اليوم، والتي تشكلت عموماً من أمراء وأعيان رموز الحرب الأهلية أو من مناصيرهم، الذين إداروا السلطة في المؤسسات الدستورية وفي المرافق العامة للدولة، بالانسجام الكامل مع مصالحهم الفئوية والطائفية والمذهبية، وأجهضوا جميع آمال وتطلعات اللبنانيين الهادفة إلى قيام الدولة الراعية والعادلة والمتوازنة، ذات الطبيعة المدنية والحضارية، دولة القانون والمؤسسات والقضاء العادل والمستقل، ليعيشوا بأمان ورفاهية وازدهار في وطنهم، كما نص عليه دستور الطائف وميثاقه الوطني ومؤتمر الدوحة فيما بعد، وجميع المؤتمرات الاقتصادية والمالية التي انعقدت من أجل  إقراض لبنان ومساعدته للخروج من أزماته المتفاقمة.

إلا أن جميع تلك المحاولات قد باءت بالفشل، في ظل حكومات المحاصصة الطائفية الفاشلة والفاسدة، والتي لم تنجح حتى في إعداد موازناتها وقطع الحسابات لمدة تجاوزت العشر سنوات متتالية، ثم أعقبتها بموازنات شكلية هي أقرب للصورية من الموازنات العلمية أو الواقعية، حتى فقدنا الثقة العالمية بنا، العربية والدولية، نتيجة الفساد المالي والإداري، والإثراء غير المشروع على حساب المال العام، وتبييض الأموال وتهريبها نحو الخارج، واستنزاف الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان، ثم المساس بأموال ملايين المودعين بعدما امتنعت الدول الخارجية عن تقديم القروض أو المساعدات للبنان، إما بسبب عدم الموافقة على انتهاج سياسة محورية معينة من قبل فريق سياسي أساسي في السلطة، وإما بسبب الإخفاق أو الإعسار الاقتصادي والمالي والاجتماعي لسياسات الحكومات المتعاقبة، التي تمثل غالبية الطبقة السياسية التي تدير السلطة في لبنان منذ ما بعد العام 1990.

طريق الخلاص
إنها في الحقيقة أزمة إدارة في السلطة السياسية وليست أزمة للنظام البرلماني الديمقراطي الحر، الذي صبغ لبنان بسماته الحضارية على امتداد عقود غابرة من الزمن، وأنه بالرغم من بعض الأزمات السياسية التي مر بها، لا يزال يعتبر النظام السياسي الأفضل لكافة الشعوب العربية، ولا خلاص أمام اللبنانيين في هذه المرحلة إلا بالخلاص من الفاسدين في هذه الطبقة السياسية الفاشلة، واستعادة الدولة والنظام الاقتصادي الحر والمنتج، وتحريره من مافيا الميليشيات الطائفية والمذهبية، وإعادة بناء السلطة على أسس دستورية سليمة، وأهمها حالياً، انتخاب رئيس جديد  للجمهورية وفقاً للدستور، يعيد الآمال للبنانيين ببناء دولة القانون والمؤسسات التي دمرتها الأحزاب الطائفية، وتشكيل مجلس للوزراء قادر على إنقاذ الوطن من أزماته المحدقة وتثبيت دعائم السلم الأهلي، واستكمال الإصلاحات الإدارية والمالية والاقتصادية والنقدية المطلوبة، وفق خطة للتعافي تكون أكثر واقعية برؤيتها المستقبلية على جميع الأصعدة.

إن طريق الخلاص للبنان لن تكون معبدة بالورود، بل ستكون قاسية وطويلة الأجل. ومن أجل ذلك، لا بد من فصل الإدارة عن السياسة كمبدأ عام وإقرار قانون استقلالية القضاء واعتماد المرونة في سياسة الانفتاح على الخارج، وانتخاب رئيس مستقل للجمهورية وتشكيل حكومة اختصاصيين ذات برنامج إنقاذي ورؤية مستقبلية واضحة، للتصدي للأزمات المحدقة والعمل على إعادة تفعيل المرافق العامة للدولة وأجهزتها الرقابية المالية والإدارية، والعمل على تحسين ميزان المدفوعات وتحديد سعر صرف العملة الوطنية بكافة الوسائل الممكنة، ومن ثم وضع جميع القوانين الإصلاحية موضع التنفيذ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها