السبت 2022/12/10

آخر تحديث: 08:54 (بيروت)

المارونية تعطّل نظامها

السبت 2022/12/10
المارونية تعطّل نظامها
كان أمس المارونية ناهضاً صوب تحقيق وطن، لكن يومها، عرف أيام نكوص متتالية
increase حجم الخط decrease

ليست مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، بل مسألة إعادة تحديد الدور في الجمهورية. ليست مسألة توافق حول أهمية الموقع السياسي الأول في لبنان، بل مسألة تعيين الوزن السياسي الباقي لطائفة الموقع ولنفوذها في توازنات الكيان العامة.

مارونية وموارنة
في معركة الصراع حول الأوزان والأدوار، لا تقف المارونية وحيدةً، بل تؤازرها طائفتها بما تحمل من إرث تاريخي، وبما تفصح عنه من "مخيال" تراثي، وبما تنسبه لذاتها من تأريخ خاص، يبدو أحياناً، وعلى ألسنة كتّاب و"مثقفين"، كأنه يقف ضمن ردهة تاريخية معلّقة فوق التاريخ، تنزله حيناً، وتفارقه أحياناً كثيرة. هذا الجمع بين الواقعي والمنسّب إلى الواقع، يلازم السرديّة المارونية عندما تُحادِث نفسها، وعندما تتحدّث في موازاة سرديّات الآخرين... كل الآخرين. ولأن لكل "موسم" سياسي مقال، فإن ممثلي المارونية يخوضون غمار المواسم، فيكونون زرّاعاً وكرّامين، ويكونون بحّارة جوّابي بحار، ورواد تواصل واتصال، ويكونون حرّاس ثغور يذودون عن الجبل والنهر والثَّغْر، عندما ينادي المنادي أن هُبّوا إلى مناصرة "الذات"، وإلى صيانة تاريخها الذي صنعته عبر الأزمنة.

المارونية هذه، التي صيغَتْ في كيان، حاولت الانتقال إلى وطن، لكنها، وعلى مدى قرن من تاريخ نزولها من الجبل إلى البحر، لم تُفلح في الانتقال من كيان اتّسع جغرافياً، إلى وطن يتّسع بشرياً. بين الجغرافيا الطبيعية الصامتة، والجغرافيا البشرية الناطقة، يربط جسر من اتفاق وتفاهم، ومن دخول إلى الواقع والفعل فيه، ومن اتصال مع مجموعات والانفعال بها والتفاعل معها... ثمّة حاجة، أثناء عبور الجسر، إلى ابتكار كلمات من طين، وإلى ابتكار علاقات من مادة زَهْر وقَهْر، وإلى صياغة نصوص لا تحتلّها النجوى، بل تتّسع لحرارة الشكوى.

لقد عجزت المارونية عن بناء جسر وطيد واكتفت بجسر معلق من حبال، لذلك ظل العبور رجراجاً غير آمن، ولذلك ظلَّ العابرون مترددين، أو قلقين أثناء المرور... هذا النوع من الجسور بَقيَ في دوامة المؤقت، وكان سهلاً على المقيمين على الضفتين، فك الحبل المشدود إلى الشجرة هنا، أو إلى الشجرة هناك، ليصير الانتقال متعذّراً، وليصير فكّ أو حلّ الارتباط محروساً بحسابات المقيمين المتباينة، وبهواجس "كياناتهم" النزاعية المقيمة.

لماذا المارونية؟
التوجّه إلى المارونية اليوم، ومن خلفها، أو من أمامها، طائفتها، مردّه إلى دورها الأساسي في قيام الكيان اللبناني، فالموارنة كانوا أوّل الساعين إلى الخروج من الجغرافيا الجبلية إلى سهول الجغرافيا المُدنية، ودور المرجعية الدينية، ودور البطريركية كان حاسماً في هذا المضمار، والخطوة الفرنسية، كانت مدفوعة أولاً "بمسيحية" أوروبية، بعد تفكك السلطة العثمانية، وتوزيع ميراثها. الموافقة المارونية كانت موافقة إجمالية، هذا يعني أن أصوات الاعتراض على "إغراق المسيحيين في بحر مسلم" لم يُكتب لها الفوز، ربما لأنها كانت معاكسة "لمنطق" التقدم التاريخي، الذي كان يُملي الخروج من "القوقعة" إلى الشاطئ، من قوقعة الاقتصاد المحلي، إلى رحاب السوق الداخلي، حيث التجارة أجزى، وحيث الداخل العربي يعد بعائدات أعلى، وحيث المدى العالمي، خاصة الفرنسي، يؤمن الحماية اللازمة، للكيان الذي بدأ خطواته الاتساعية الأولى متردداً، ونطق بنصوصه المختارة الابتدائية متلعثماً... على أكثر من وجه، تُسْأل المارونية عن مصير شجاعتها حيث أقدمت قبل قرن من اليوم، وتُسَاءَلُ عن معنى سلوكها خطاً بيانياً سياسياً معاكساً لوجهة الخط البياني السياسي الصاعد، الذي كان لها ذات يوم من تأسيس الكيان.

مارونية وآخرون
تتقدم المارونة على الآخرين عند ذكر قيام لبنان الكبير، مثلما تتقدمهم لدى الحديث عن الدفاع عن "الفكرة" اللبنانية. تقدّمها هذا، وضعها في مركز الصدارة الوطنية، سياسياً، ووضعها أيضاً على مقعد الاتهام الأول، عند تعثّر استواء "الفكرة" الوطنية، استواءً عمومياً، يتجاوز الخصوصية من دون أن يلغيها، ويجعل من التعدّد الطائفي "نعمة"، فلا يُسهم في حقنه بعوامل النزاع الذي جعلته "نقمة".

تاريخياً، كانت الأكثرية الإسلامية غير راضية عن إلحاقها بجبل المتصرفية، وكان مطلبها دولة عربية واحدة بقيادة الأمير فيصل، وكانت الدولة المعنية، مدّى وحدوداً، ما أشير إليه بسوريا الكبرى... على هذا المعنى، كانت الإسلامية أطرافاً تمّ زجّها في المركز، وهي "تلبننت" بعد سنوات، وعندما ارتضت الاستقلال، أبرمت "ميثاق" تنازل متبادل مع "المسيحية". كانت الصفقة راجحة في ميزان المسيحيين، مثلما كانت أقل وزناً في ميزان المسلمين. هل كان ذلك إجحافاً تكوينياً بدْئياً؟ هو الأمر، الذي قرّره الواقع والتوازنات. لكن هل كان ضرورياً أن يستمرّ الإجحاف المؤقت، ليكون إجحافاً داخلياً مستداماً؟ هذا مما ترفضه الحيثية التاريخية، ومما يستبعده التطور السكاني العام.

في السياق أعلاه، كيف تصرّفت المارونية؟ تشير اليوميات الما بعد استقلالية إلى محاولة النهج السائد ضمن المارونية، تأبيد الاختلال التكويني الابتدائي، وإلى مقاومة إدخال تعديلات جديدة على بنية النظام، ومن ثمَّ الحرص على جمود الصيغة الداخلية، والحجر عليها في دائرة السكون التام. ماذا  كانت النتائج؟ ما هو معلوم من اضطرابات داخلية أهلية، ومن لجوء إلى الوسائل العنفية، التي أوصلت النظام اللبناني الموروث إلى حالة اهترائه، وأوصلت المارونية إلى حالة التخبط السياسي الذي منعها حتى تاريخه، من مراجعة تاريخها، ومن الوقوف أمام معاركها السياسية الخاسرة، على امتداد عقود. هذا التخبط، ما زال ملازماً للحركة السياسية المارونية، بكافة تكتلاتها الفاعلة، لذلك، ما زالت أوضاعها، أي المارونية، مفتوحة على مخاطر خسارتها للكثير من سمات كيانيتها، بعد أن وفّرت أسباباً كثيرة، عطلت آليات نظامها، ثمّ عطلت النظام فأدخلته في دوّامة الاضطراب واللاانتظام.

أمس المارونية ويومها
أمس المارونية. كما سلف، هو أمس الطموح الجمهوري، وقد كان لهذا الطموح رعايته، ثم استشراف إمكانيته، ثم تجسيده في إطار جغرافي معلوم، وفي نصوص دستورية وميثاقية مقروءة.
صوت الجنرال الفرنسي غورو الذي بشّر بلبنان الكبير، لاقته أصوات داخلية ذات نبرات وهواجس مختلفة، لكن الصوت الأوضح من بينها، كان صوت المارونية. في سياق الوضوح الموافق هذا، كان الدستور الأول، عام 1926، وكان الرئيس الأول، حبيب باشا السعد في ذات العام، ثم تكفّلت المتواليات السياسية بتوسيع رقعة القابلين من الطوائف الإسلامية التي جمعت بين الرضى بالكيان، والقبول بدور المارونية الأوّل فيه. لم يكن أساس القبول الإسلامي التعداد السكاني، الذي احتلّ فيه المسيحيون المرتبة الأولى، وتقدمت المارونية ضمنه لتحوز على العدد الأكبر ضمن بيئتها، بل إن عوامل نشوء إضافية، أعطت للمارونية قصب التفوق في المناصب الرسمية، عوامل تجد أساسها في التاريخ الثقافي والتعليمي والاقتصادي والصلات بالعالم الخارجي، منذ قيام المتصرفية، وحتى تاريخ توزيع منطقة نفوذ السلطة العثمانية.

موجز القول، كان أمس المارونية ناهضاً، ووجهة سيره صوب تحقيق وطن، لكن يومها، الذي بدأ مع الاستقلال، وما تلاه، عرف أيام نكوص متتالية. ترافق ذلك مع اتساع صفوف "اللبننة" لدى الطوائف المشاركة في الكيان، مع ما فرضه ذلك من نهوض في المجالات الداخلية العامة، ومن انخراط في آليات الإنتاج المادية والمعرفية والسياسية. لم تستطع المارونية استيعاب وهضم نهوض شركائها. عدم الاستيعاب شكّل سمة يوم المارونية المستمرّ حتى اللحظة الرئاسية الراهنة، بما هي سمة "إشكالية"، مفتوحة على منازعات وعلى توزيع غنائم وحصص، أي على سياق سياسي أدّى إلى تبديد الأساسي من سياق أمس المارونية.

كما هو واضح، راهناً، تجني المارونية ثمار زرعها الذي لم يكن كله حُلْواً، وتقوم بتوزيع الجنى هذا، على البيئات التي تنازعها "الحقل" السياسي، وضمن بيئتها الخاصة. هذا التوزيع بات من علامات اختصار الكيان بالطائفة، ومن علامات اختزال الطائفة بأحزابها، ثم بالمتقدمين، رمزياً وحقيقياً، ضمن هذه الأحزاب.

ماذا يعني ذلك؟ ليس أقل من تشتت الجهد الكياني، ومن ثمّ تشتيته، والبحث عن صيغ ما دون وطنية الكيان الوليد، من قبيل اللامركزية والفدرالية، أو الكونفدرالية والعلمانية الشاملة، وهذه صيغ سبق وطرحتها نخبة مسيحية خلال فترة الحرب الأهلية، ولم يكتب لها بلوغ أفهام الجمهور. قياساً على ذلك، أو استخلاصاً منه، الممارسة الجمهورية الحالية، للأحزاب المسيحية الكبرى، ترفع سدوداً، وهي تدّعي فتح السبل أمام الحلول، وتقفل أبواباً، وهي تبالغ في طرح مطالب لن تعرف طريقها إلى صندوق الاقتراع تحت قبّة البرلمان، لذلك يتجدَّد السؤال: رئيس أم جمهورية؟ كيانية أم تراجع عن تاريخ ما زال كثيرون يناقشون ملاءمته لدى كل أزمة وطنية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها