السبت 2022/10/08

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

أوكرانيا: معركة الاستبداد الديمقراطي

السبت 2022/10/08
أوكرانيا: معركة الاستبداد الديمقراطي
روسيا في أوكرانيا تشكل فرعاً من فروع الأمركة الجديدة، في سعيها إلى الاستحواذ (Getty)
increase حجم الخط decrease
مراجعة مصطلحات الغرب، والتدقيق في مفردات حضارته، تطرحها اليوم المعركة الدائرة فوق المسرح الأوكراني، مثلما طرحتها الضرورات بالأمس، في ميدان العراق، وما زالت تلحُّ على طرحها، كل السياسات التي تقودها زعيمة المصطلحات الغربية، أي الولايات المتحدة الأميركية، في مناطق عالمية متفرقة.

على بساط البحث
ماذا بقي من ديمقراطية الغرب الحديث، في دياره أولاً، وفي الديار التي تتحالف مع تعريفاته، ادعاءً، أو تضليلاً، أو على سبيل التشبه، عملاً بالقول المأثور، "وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم...".

المشهد الراهن، حيث صعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد أوروبي، يقدم صورة عن ديمقراطية مأزومة، وعن غياب فلسفة أسَّست لقيام تجارب حكم ديمقراطية، وأرست قيم تنويرية في الثقافة وفي العلاقات المجتمعية، داخل كل وطن مستقل، ومع أوطان خارجية.

يتصَّدر المشهد الحالي، انبعاث الأمركة مجدَّداً، وهذه تكاد تعادل الانقلاب الشامل على "الحضارية" التي اتّخذها الغرب عموماً سِمَةَ له، وفاخرت "الأميركية" بتقدمها في مضمار الحضارية، معلنةً أنها الأولى على سلَّم تراتبيتها.

لقد احتلّت الأمركة العالم بعد إعلان "صموئيل هنتغتون" عن صراع الحضارات، وتقدمت لبلورة احتلالها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وسلاحها نظرية "فوكوياما" عن نهاية التاريخ، ثم غرقت في وحول حروبها في أفغانستان وفي الصومال وفي العراق...  فخرجت صفر اليدين سياسةً، وملأى اليدين كراهية، من شعوب دفعت ثمن الأمركة من عمرانها ومن حيوات سكانها. ماذا نسمّي الأمركة المندلعة الآن، في السياسة وفي المعارك؟ هي ليست أقلُّ من استبداد جديد، على مختلف المعاني التي تشرح مفردة الاستبداد.

روسيا والأمركة في أوكرانيا
دَفعاً لكل ظنّ انحياز إلى السياسة الروسية العدوانية في أوكرانيا، نقول إن العدوان مرفوض ومدان، وفقاً لمعاييرنا الإنسانية والأخلاقية، وانسجاماً مع ميراث الأفكار الحضارية التي صاغتها نخب عالمية من شعوب متعدّدة... وهذا بات مخالفاً لما هو معمول به من قبل مخططي السياسات الاستحواذية، في الغرب وفي الشرق، مما بات معه المشهد الطاغي مشهد تحكُّم وتسلّط ومشهد انفراد أبوي، يقرر للعالم وجهته، من دون مسؤولية عن نتائج قراره، ومن دون قدرة المتضررين على محاسبته على شرور أعماله... في هذا السياق، ننسب السياسة الأميركية إلى الاستبداد بالعالم، أي الانفراد به، لغةً، وإلى التحكّم بتوجهاته، وإلى تقرير الأساسي من سياساته، على الضد من مصالح "الأفراد" جَمْعاً، وتنفيذاً لمصالح "الفرد المتسلّط"، على وجه التحديد...

يسمح الآنف بالقول، إن روسيا في أوكرانيا تشكل فرعاً من فروع الأمركة الجديدة، في سعيها إلى الاستحواذ وقد شجعها على ذلك، نهج التخلّي الأميركي في سوريا، والنهج الانسحابي من العراق، والنهج "الفراري" من أفغانستان، ونهج المراوغة الدائمة في الخليج العربي المتوجّس من إيران.

من مجموع المناهج "الأمْركية"، فهم الروسي أنه يستطيع الاستثمار في أوكرانيا، مثلما استثمر في جغرافيات أخرى، لكن ما ظنّه الروسي مسموحاً هناك، كان ممنوعاً هنا، فالفرق ما زال قائماً بين سياسة التلاعب المفتوح في بلاد العالم الثالث، حيث الاستبداد "طَبعاً"، وبين سياسة التلاعب المدروس في "العالم الأول"، حيث الديمقراطية ما زالت "إسَّاً".. هذه الديمقراطية، وعلى الطريقة الأميركية، انكشفت عن أنها ما زالت "تطبُّعاً" لمّا يثبت على أساس طَبْعٍ مكين.

أوكرانيا المؤمركة
أوكرانيا المؤمركة، قبل القول أوكرانيا المتأمركة لأن واقع العدوان الذي تتعرض له الآن، يضعها موضع المعذور، من دون أن يجعلها في موقع غير المسائل، والمسؤول، عمّا وصلت إليه أحوالها.

لنعد إلى بيت القصيد، فأوكرانيا كانت منزلقًا لروسيا، أعدّته السياسة الأميركية، ولم تقرأه بعناية السياسة الروسية، فدخلته بعنجهية بوتينية جلية، فكانت المحصلة، حتى الآن، فضيحة ميدانية وأخلاقية واضحة، للجيش الروسي الذي يحرس اسم" القوة العظمى" الثانية عالميًّا.

التأمرك الأوكراني "القتالي"، لم يكن وليد فراغ في المشهد السياسي الداخلي، بل قام على تجمعات سياسية داخلية، يُشار إليها بالصوت وبالبنان وبالبيان، وقد جاء الاجتياح الروسي ليكمل بنيان التأمرك القادم، الذي تغطيه أميركا بإعلانات الحرية، وبهدف كبح النزعة العدوانية الروسية، وتؤازره أوروبا، المتجهة "يمينًا"، بدعم" عقوباتي"، وبنجدة سلاحية، وتلحّ عليه القيادة الأوكرانية، وتستدرجه وتتدرج في مناكبه، طلبا لدحر العدوان، ولتحصين الوحدة الجغرافية الوطنية في المستقبل البعيد.

ما هو ماثلٌ أمام العين المراقبة اليوم، انغماس أوكراني في تيار الأمركة، جعل المنغمس عاجزا عن الصعود إلى سطح الماء، وممنوعا من التنفس ملء رئتيه السياسيتين، إذا ما استطاع ملامسة وجه الهواء. هذا التأمرك، الذي يرفع صوت التحرير، صار صوته أميركيا في غرف صناعة قرار السماح بالوصول إلى التحرير، فهذا له حسابات مؤمركة مختلفة، عمادها حساب المصالح الأميركية الخاصة، التي نصب ساستها الفخ، ورسموا خطط المناورات المطلوبة، وافترضوا النهايات المقبولة، لكل الأطراف الذين دخلوا إلى ساحة المواجهة الهجومية الأمركية حقيقة، باسم الدفاع عن الحرية والعالمية وأوكرانيا، زيفًا وتضليلًا عن أهداف الأمركة المضمرة.

في الخلاصة، بين أمركة روسيا وتأمرك أوكرانيا، هل من خيارات متاحة؟ كان الأمر أسهل قبيل إعلان الحرب، وصار صعبًا شديد التعقيد بعدها. يطرح ذلك السؤال عن السبب، والجواب هو أن إدارة الصراع باتت في عهدة البنتاغون الأميركي، وعلى طاولة أركان الحلف الأطلسي، لذلك سينتظر الروسي طويلًا قبل أن يعرف محطة ختام الإضعاف المقررة له، وستنتظر أوروبا طويلا، قبل بلوغ محطة ختام درجة التبعية المقررة لها، وستدفع أوكرانيا المزيد من الخسائر، قبل أن يقرر الأميركي إطلاق سراحها من سجن تدميرها المقصود.

نحن والاستبداد الجديد
تقود المصالح الاستبداد الجديد، مثلما قادت الاستعمار بنسخه العديدة. المصالح يجري تفصيلها على قياس "نخبة" اجتماعية محليّة، تصير شعارًا وطنيًّا عامًا لإمبراطورية ماضية، أو لدولة امبريالية حاضرة، فتعلن حرب الفئة حربًا باسم الأمة، ومن أجل تعظيم مصالحها وتحقيق ازدهارها. جورج بوش الإبن، رئيس الأمركة ذات يوم، قالها باسم النخبة: لماذا يكرهوننا؟ لم يسأل ما المكروه منه وعنده. سؤال الأمركة التعميمي هذا، يعيد الاعتبار إلى شعارات تعميمية، ماركسية ولينينية سابقة، منها يا عمال العالم اتحدوا، ومنها إن كل حرب عالمية، هي حرب لإعادة قسمة وتوزيع الأسواق العالمية، ومنها، إن الرأسمالية هي أول من يضع السلاح على جدول الأعمال...

لقد كان حقيقيًا جدًا التأكيد الماركسي على البعد الإنساني، حيث لا تكون العلاقات الاجتماعية علاقة "نَقْدًا وعَدًّا"، وكان واقعيًا جدًّا انهيار النماذج التي قامت باسم الماركسية واللينينة، بعدما صارت البشارة قيد استبداد.

وعلى ذات السَوِيّة، لقد كان حقيقيًّا إعلان الثورة الفرنسية عن الحرية والإخاء والمساواة، وها هو يكتمل واقعيًّا، استبداد تقوده الأمركة، ينقلب على كل بشارة الحضارة الغربية.

أين نحن من ذلك؟ لا بديل من خيار يضع مصالحنا في مقدمة الحسابات، ولا بديل من سياسات تحرص على قيمة الفرد وعلى قيم الإنسانية، بعيدًا من شمولية السياسات اللاعقلانية الغيبية، وبعيدًا من السياسات اللاعقلانية الوضعية. لقد قال الواقع كلمته، في هاتين السياستين، اللتين تجمعهما الشعاريتان الشعبويتان، ويجمعهما رابط الاستبداد.

أوكرانيا ميدان خراب كاشف جديد.. عسى ألّا يصير العالم كله، ميدان خراب. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها