السبت 2022/10/15

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

موج الترسيم: تاريخ يلغي تاريخاً

السبت 2022/10/15
موج الترسيم: تاريخ يلغي تاريخاً
يجب أن تتقدم المواضيع الجديدة الناجمة عن الاتفاق سائر البيانات المنتهية الصلاحية السياسية(Getty)
increase حجم الخط decrease

دخل لبنان الرسمي إلى بحر ترسيم حدوده الصراعية، عندما اتفق مع اسرائيل على ترسيم حدوده النفطية-الغازية. موعد توقيع الاتفاق بين الطرفين العَدُوَّين، سيكون تأسيسًا لوقت لبناني جديد، عنوانه تحديد حصّة لبنان من الصراع العربي الصهيوني، هذا بلغة القوميين العرب الأوائل، التي تلاشت فصار الصهيوني إسرائيليًا، ثم صار "جارًا"، فصديقًا، لعدد من الأنساق الرسمية العربية. . .
هذه الحقيقة اللبنانية الجديدة، لن ينفع في دحضها بيان يشير إلى "الشريك" البحري بكلمة العدو، ولن يعرقل سيرها سيل الكلام النضالي الذي صدر، وسيصدر، عن نضاليات قومية واشتراكية وشيوعية، سَادَتْ ثم بَادَتْ، مثلما لن يحجب دور النضالية الإسلامية السائدة، في صناعة هذه الحقيقة الملموسة الجديدة، التي ستصير عنوانّا لتاريخ لبناني رسمي وشعبي، يشبه التاريخ الذي وصلت إليه دول عربية عديدة. الجديد الآتي هذا، باسم الربّ، وباسم الإنسان، يلقي حمولته المباشرة والمرتقبة، على أذهان وأفهام من اشتغلوا سياسة قومية ووطنية، في السابق، وعلى من سيظل مقيمًا في ميادين السياسة العامة، في الداخل وفي الخارج، في الحاضر وفي المستقبل. حمولة السياسة الجديدة، ستكون جديدة بحكم الواقع، ولو عاكستها الرغبات، وستشقّ طريقها بقوة دفعها الواقعية، ولو واجهتها بعض "الإرادويات"، وسيكون الجميع أمام سير تاريخ يصير تاريخيّا، وأمام سيرة مجموع تاريخي، تذهب وأصحابها، إلى أرشيف التاريخ.

حصة لبنان

لقد احتلّ انتساب لبنان إلى الصراع العربي الاسرائيلي موقعًا أساسيَّا في مسألة الحرب الأهلية اللبنانيّة، وكان لتحديد الحصّة اللبنانية من هذا الصراع، دور المساعد التفجيري، الذي تبادلت توظيفه واستخدامه، أطراف الصراع الأهلي. لقد انتقد عدد من المشاركين في الحرب، سياساتهم" القومية"، عندما أعلنوا أنهم" حمّلوا لبنان فوق طاقته" في مضمار القضية الفلسطينية، وما زال عدد آخر من المشاركين يردّد ذات معزوفة" حرب الآخرين على أرضنا"، في الوقت الذي يعلن فيه كل هؤلاء، اليوم، دعمه لنضال الشعب الفلسطيني، ولدولته الموعودة فوق جزء من تراب فلسطين. هذا الانتساب إلى العروبة، صار هيّنًا ليّنًا اليوم، لذلك لا ضير من لبس عباءتها القشيبة ذات المردود "الجمالي"، من قِبَل من عاداها بالأمس، ولا بأس أيضًا من تكرار" أنشودة" العروبة التي يحفظها مريدوها التاريخيون، عن ظهر قلب، كتأكيد على ثباتهم في التاريخ، وعلى استمرارهم اللفظي، في الحاضر، ومن دون انتباه إلى أن التاريخ قد أوغل في السير إلى الأمام. . .
في السياق المشار إليه، جاء الترسيم البحري ليضع حدًا مُعْلَنًا، للخلاف الأهلي حول الحصّة اللبنانية من الصراع التاريخي حول فلسطين، فما بات مطروحًا أمام اللبنانيين، هو نقاش المصلحة الماديّة، وحساب العائدات النفطية والغازية، وأمن وسلامة التنقيب والتصدير، جنبًا إلى جنب، مع الجار الذي كان عدوّا فصار شريكًا، في الثروة وفي السلامة وفي الأمن، على جانبي "المؤسسة التجارية" المشتركة. هذا تاريخ يزيح تاريخًا، وهذه عناوين تاريخية جديدة، تقصي عناوين قديمة ومتقادمة، إذن، ما المسائل الواقعية التي يطرحها الواقع الجديد؟ وما القول فيها؟ وما السياسات الناجمة عن العنوان والقول وإعادة التعريف "النظرية"؟ الواضح، وحتى إشعار جديد، أن الجعب التفسيرية القديمة صارت غير مجدية، ومعها صار تافهًا، قولًا وعملًا، ما هو متداول من أطراف "المفارقة" الأهلية اللبنانية، فهذا لا وظيفة له غير وظيفة التعبئة الخاصة، الطائفية والمذهبية، على مستوى التوليفة الرسمية، وذات المتداول صار هباءً لفظيًّا غير ذي جَنَى سياسيٍّ، على مستوى الأنساق الشعبيَّة، الحزبيَّة وغير الحزبية.

ارتباك الاعتراض وحيرته

كما هو متوقَّع، مازال اتفاق الترسيم موضع نقد، وموضوع اعتراض، يشترك في ذلك الحزبيّ المقيم على بيانه القديم، "والخبير" الجغرافي أو العارف التاريخي، وذو المنبت "المُدني"، الذي يقترب حقوقيًا، ولا يصيب التوفيق سياسيًا، وإلى أولئك يُضافُ عدد من المهتمين من موقع السؤال والحرص...لكن الكثرة الساحقة من أولئك، لا تقترح سلوكًا عمليًا، من قبيل عرض الاتفاق على الاستفتاء الشعبي، أو الدعوة إلى تعديله، أو المناداة برفضه، أو الاحتفاظ ببنود "ربط نزاع"، حول قضايا قد تمسّ، في المستقبل، بالمصالح العليا اللبنانية.

السمَة العامة لكل ما ورد من اعتراض، هي سمة الارتباك والحيرة، في السياسة وفي العمل. مصدر ذلك، المعلن أو المضمر، هو الإقرار بالعجز، واقعياً، في الظروف الدولية والإقليمية المعلومة، وفي الظرف اللبناني الراهن، الذي بلغ مستوياتٍ خطيرة من تدهوره، من دون قدرة قوى الاعتراض مجتمعة، على صياغة مشروع كبح ناجح، سياسياً وشعبيًا، في مواجهة التوليفة الرسمية المتحكمَة.
على أن ما هو لافت، في سياق الحيرة والارتباك، هو موقف القوى التي اعترضت على سياسات حزب الله، عندما هدّد باستخدام القوة بحرّا، فدعته إلى الامتناع عن إدخاله لبنان في حرب جديدة، ثم عادت، ذات القوى، لتنتقد الحزب، عندما وافق على الترسيم، معلِلًا الأمر، بالالتزام بما تقرّره الدولة اللبنانية. السؤال الذي يطرح في هذا السياق، ما المقترح على حزب الله؟ رفض الاتفاق؟ منعه بالقوة؟ الجواب المعلوم، إن للحزب مصلحة في ذلك، بديهي ولا يثير استغرابا، فالمصلحة تقود كل اتفاق، لذلك يستمر السؤال: هل يرى المعترضون مصلحة في التزام الحزب هذه المرة أم لا؟ وهل يمكن توظيف ذلك في سياسة نزع الذرائع "السلاحية" فيدعى إلى ترسيم برّي، فتزال ذريعة شبعا البرية، بعد أن أزيحت "شبعا" البحرية؟.

نعتقد بضرورة نقل الهموم الاعتراضية إلى مجال آخر، بحيث تتقدم المواضيع الجديدة الناجمة عن الاتفاق، سائر البيانات القديمة المنتهية الصلاحية السياسية.

خارج الغربال

صحيح قول القائل: إننا أمام مفصل تاريخيّ جديد. الصحيح استطرادا، أن التاريخي الجديد يجعل ما سبقه غير تاريخي عندما يقصيه.
بين التاريخي الجديد، وما كان تاريخيا ذات يوم، فارق عناوين كثيرة، تستدعي استحضارها، بهدف مراجعتها، بحيث يكون الجديد الفكري والسياسي، من نصيب ما هو مستمر واقعيا، من هذه العناوين، وتكون الإحالة إلى المحفوظات من نصيب ما بات غير راهنٍ منها.

من المواضيع التي ترافق اللبنانيين عموماً، والساسة منهم على وجه الخصوص، موضوع الصراع العربي الاسرائيلي، وإعادة تعريفه اليوم. الصهيونية والمشروع الصهيوني، وما مضمونه الراهن. المسألة الفلسطينية، تعريفها في واقعها، وقول الرأي فيها، وفي كيفية الانضمام أليها، بالمؤازرة والمساندة، وضد التخريب ضمنها والمزايدة عليها.

إلى ذلك، ما هو واقع العروبة اليوم، بعد رحلتها الطويلة، بعد الحرب العالمية الأولى وبعد كل القصص الاستقلالية والوحدوية والانفصالية.
عنوان العالم بقضاياه عنوان حاضر بقوة، والنظرة الجديدة إلى مراكزه وأطرافه وتوازناته، بعيدا من الشعارات المنقولة من القرن التاسع عشر، مهمة جديّة لمن أراد انخراطا جديا في المعاصرة، ومسؤولية يجب أن يتحملها من يريد القراءة بعين ناظرة مفكرة، تستبعد عين قراءة المؤامرة المستدامة، وتلاحظ، أقلّه، لماذا تصيب المؤامرة النجاح عندنا، وتخفق في ديار غيرنا.

أما العنوان اللبناني، فيظل في مركز خلاصات كل تلك العناوين، ولعل القراءة الشاملة هدفها وطني داخلي، إذ يكون السير على هدى سياسي عند النجاح في الجمع بين القراءة المستنيرة خارجيا، وبين القراءة الواعية المسؤولة داخلياً، هذا لأن التفاعل بين داخل وخارج، وحسن إدارة التوازن بين أساسيات هذا، وضرورات ذاك، عاملان مقرران في استقرار الأوطان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها