الخميس 2022/10/13

آخر تحديث: 13:31 (بيروت)

أن نأكل من عنب نصرالله..

الخميس 2022/10/13
أن نأكل من عنب نصرالله..
يبدو أن حزب الله بدأ يتعوّد على طعم "الديبلوماسية" (المنار)
increase حجم الخط decrease

كان وجه حسن نصرالله مساء الثلاثاء الماضي "نضراً"، محاطاً بخلفية خضراء فاقعة، تعزز انطباعاً بالاسترخاء والرضى. ورغم أنه لم يتخلَ عن النبرة الصارمة والعبارات المتصلبة، بدا وكأنه يستعمل كلمات جديدة على قاموسه. أو أن كلماته القديمة راحت تكتسب معاني جديدة. إنه يتحدث عن الفرح والهدوء والعنب والتفاهم والثروة والمسؤولية الوطنية.. وأيضاً، بشّرنا (وبشّرهم أولاً) أنه لن يهدد ولن يتوعّد.

ليس نادراً أن يبتسم أو أن تظهر ضحكاته أو أن يعبر عن زهوه. لكن هذه المرة وعلى نحو نادر بدا "مسالماً" ومنشرحاً. كما أنه بذل جهداً ليقنعنا أنه مختلف حقاً وودوداً إلى حد ما. وكان بإمكاننا تخيله كعسكري يهمّ بخلع بدلته القتالية.

مع ذلك، منعه توجسه المتأصل فيه من الإسراع بالإعلان صراحة عما حدث. أو هو وجد صعوبة بمصارحة جمهوره دفعة واحدة. فاتفاق الترسيم البحري، الذي تم القبول به ليلتها، مفتتح لمسار مختلف جذرياً عن ذاك المسار الذي اختاره حزب الله طوال أربعين عاماً.

ونصرالله نفسه عبّر عن ذلك، بأسلوب شديد التبسيط: من الآن فصاعداً لا نريد قتل الناطور، بل أكل العنب وحسب.

هذه القاعدة البديهية في "الحكمة الشعبية" لم تكن كذلك مع تاريخ حزب الله وعقيدته، الذي كانت غايته دوماً قتل الناطور وأغلب الأحيان حرق حقل الكرمة كله أيضاً.

يمكن القول أن ذلك كان أصل الانقسام اللبناني العميق في قضية مصير الجنوب والحدود والتحرير، لا فقط مع حزب الله إنما منذ اتفاق القاهرة 1969، الذي أسس لسياسة قتل الناطور.. فلا هو قُتل ولا أكلنا عنباً. أكثر من نصف قرن تكدست فيه مآسينا إلى اليوم.

بطريقته، التي تحفظ له "إيمانه" وولاءه العقائدي، راح يتنكر لمسألة خطوط الترسيم ويستسخفها، على نحو مناقض تماماً لأدبيات "المقاومة". فالآن، ثمار البحر وقاعه هي الأهم. هذا هو فحوى المسار الجديد.

أسوأ رد فعل من قبل خصوم الحزب هو إما المزايدة عليه أو الاعتراض من باب النكاية والإنكار.

يجب الاعتراف أن الحزب لأول مرة كان متلهفاً لانتصار "ديبلوماسي"، إذا جاز التعبير. ومن طبيعة الإنجازات الديبلوماسية أن الجميع يربح وينتصر. الجميع يشارك بأكل العنب من دون إراقة الدماء.

هذا تحول كبير وهائل في سيرة حزب الله، أن يقبل أو يفوّض أو يدعم قرار الدولة اللبنانية بالتفاوض مع العدو، علاوة عن قبوله بالولايات المتحدة كـ"وسيط نزيه" وموثوق به، ليس لتدبير صفقة تبادل أسرى مثلاً، أو لترتيب وقف إطلاق النار وما شابه، بل لعقد "اتفاقية حدودية"، يترتب عليها عملياً ضمانات أمنية توازي أو تفوق اتفاقية الهدنة الموقعة عام 1949. وهي بطبيعتها ليست تفاهماً على وضع سياج وفاصل شاهق، بل على مد "أنابيب" تعاون ومصالح مشتركة وتفاهمات اقتصادية ومالية وتشابك لا مفر منه في سوق بيع وشراء واستخراج وتصدير نفط وغاز..

فالاتفاقية في جوهرها ليست فقط ترسيماً وتقاسماً للمنافع الاقتصادية، إنما هي أشبه باعتراف رسمي بوجود تلك الجارة.. كمقدمة لما هو أبعد وإلى تخوم "التابو": اتفاقية سلام.

مسودة الاتفاق تتضمن تنازلات سيادية وأمنية وربما اقتصادية أيضاً، ويبدو أن حزب الله وافق عليها بكامل مندرجاتها. القبول بهذه التنازلات وبانتهاج الديبلوماسية، ما كان أي طرف لبناني ليجرؤ عليه سابقاً. فلكانت "المقاومة" أشهرت التخوين فوراً بوجهه وأسقطته بالقوة ولو استلزم الأمر حرباً.

ما كانت أي حكومة لبنانية قادرة على هذا "الإنجاز" لو أن حزب الله بقي على سياسته "القديمة". فهكذا اتفاق ما كان له أي قيمة لولا "الضمانات" المسبقة التي منحها حزب الله بالالتزام به، ولولا ثقة الولايات المتحدة وإسرائيل بهكذا التزام.

حتى داخلياً، يبدو أن حزب الله بدأ يتعوّد على طعم "الديبلوماسية". فالحزب الذي لم يعرف يوماً سوى إظهار التحدي والاستقواء والغلبة، وأذاقنا الويلات بسياسة التحدي والترهيب والفرض، ها هو اليوم يكرر على نحو مدهش (وإن من باب المراوغة) لازمة: لا نريد مرشح تحدي بانتخابات الرئاسة!

أفنينا ما يقارب العقدين ونحن نحاول إقناعه، وها هو فجأة يترنم بشعار: "لبنان لا يمكن أن يدار بالتحدي".

كم نود أن نصدّق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها