الخميس 2021/09/30

آخر تحديث: 14:58 (بيروت)

إنها أقوى حكومة لبنانية!

الخميس 2021/09/30
إنها أقوى حكومة لبنانية!
الحكومة الحالية متحررة من أي تحديات. شعب مستسلم ومجتمع دولي مساير (حسن ابراهيم)
increase حجم الخط decrease

المكابرون وحدهم ينكرون قوة هذه الحكومة وأثرها الفوري. على الأقل، أنهت "السبات" المديد لحكومة حسان دياب الشديدة البلادة. أنهت فراغاً يشبه خواء معدة جائع على مشارف الموت. هذا إنجاز بحد ذاته.

ولدت حكومة نجيب ميقاتي فانخفض الدولار ستة آلاف ليرة. معجزة صغيرة وفورية. وكانت "مصادفة سعيدة" أيضاً وصول المازوت الإيراني بالتوقيت نفسه تقريباً، كمدد باذخ قبل انطفاء آخر مولّد كهربائي. وها هي شحنات الفيول العراقي تصل تباعاً. ساعتان من الكهرباء يومياً. يا للرفاهية.

ها هي الشاحنات الصغيرة توزع بوفرة جِرار الغاز على الدكاكين. ها هي طوابير البنزين تتبدد. ها هي أسعار المواد الاستهلاكية تنخفض قليلاً. ها هم التلامذة يتوجّهون إلى المدارس. الإنترنت شغّال. وها هي الطرقات كلها مفتوحة ولا أحد يشعل إطاراً مطاطياً ليقطعها. لا اعتصامات ولا احتجاجات.. حتى الشغب على صفحات التواصل الاجتماعي يكاد يذوي.

بأقل من شهر، وبالكاد عقدت جلستها الأولى، بدأت أفاعيل هذه الحكومة تترك أثرها على مناحي حياتنا اليومية. من شعارها الأول "الأمل والعزم" إلى شعارها الأخير "معاً للانقاذ"، وزّعت تفاؤلاً عزّ وجوده طوال سنتين.

كأننا كنا في الرمق الأخير، فأتت النجدة. أي مواطن يائس سيعترف الآن أن ثمة تحسناً طرأ. انخفض منسوب يأسه قليلاً. ومن يتذكر فترة "تكليف" سعد الحريري والاستعصاء السياسي المصاحب للانهيار الاقتصادي والخراب الاجتماعي، لا بد وأن ينظر إلى نجيب ميقاتي ببعض الإعجاب، على الأقل، خصوصاً حين يراه واقفاً مثلاً على درج قصر الإليزيه بصحبة رئيس فرنسا. عودة القليل من الاحترام الدبلوماسي.

لكن، لماذا يبدو كل هذا خدعة.. قشرة لامعة تغلّف عفناً. وردة فوق كيس نفايات؟ لا بل أكثر من خدعة: فخ قاتل.

يمكن تشبيه اللبناني كعالق في مخيم اعتقال تعسفي، أو كرجل مخطوف على يد عصابة إجرامية. يتعرض لتجويع وتعطيش وحرمان من الضوء والنوم والدفء، يعاني تدهوراً صحياً ومن آلام مبرحة جراء التعذيب.

في مثل هذه التجربة، ستكون ذكريات الاعتراض على ضريبة الواتساب الشهيرة، بالغة التفاهة، بل وربما مدعاة للندم. أما ذكرى الامتعاض من عجز على إدخار ما يكفي لرحلة سياحية إلى أوروبا، فستبدو علامة على البطر وقلة التواضع.

الرجل المعتقل هذا الذي كان شديد الاعتداد بكرامته ذات يوم، المرفّه، سيرى الآن السيجارة التي سيمنحه إياها جلاده منحة هائلة، التفاتة "إنسانية" لا تقدر بثمن. السماح له بالخروج إلى الحمام رأفة عظيمة. أن يمر يوم بلا تعذيب ولا إهانة ذروة السعادة والهناءة. ستغمره الغبطة إن زادت وجبته حبة زيتون إضافية.

إنه الآن كائن آخر غير ذاك الذي كانه قبل 2019. إنسان "خام" بدائي متحرر من تعاليه وشروط السمو. عار تماماً من أي طموحات إلا "البقاء على قيد الحياة". الجلاد نفذ مهمته بنجاح. مشهد الابتهاج العارم لصهريج. وقبله مشهد الظفر بعبوة زيت مدعوم، بعلبة دواء، بليتر بنزين.. كان دليلاً على التدجين العظيم (ومن سيتذكر لحظة جموحنا حين أسقطنا سعد الحريري ورحنا نعدّ العدة للوصول إلى بعبدا لإسقاط ميشال عون؟).

تلك الطموحات الكبرى: مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين، استعادة الأموال من المصارف وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، استقلالية القضاء، التغيير الديموقراطي، نزع سلاح الميليشيات، التدقيق المالي الجنائي، إصلاح قطاع الكهرباء والطاقة، حماية البيئة (من يتذكر معركة سد بسري مثلاً)، حل أزمة النفايات، ترسيم الحدود الشرقية الشمالية والجنوبية والبحرية.. وأبعد، نحو تغيير النظام الطائفي وإرساء الدولة المدنية (والعلمانية، لما لا) والمزيد من المساواة الجندرية والعدالة الاجتماعية ومكافحة التمييز وكل أشكال العنصرية. ولا ننسى ذاك الشعار الذي ابتذل كثيراً: التنمية المتوازنة... كلها طموحات باتت "قديمة" بل وبعيدة كبعد أيسلندا أو نيوزيلاندا.

بهذا المعنى، مزيج العنف الذي واجه اللبنانيين والمصاحب لشراسة الانهيار الاقتصادي (بما يبرهن على التحالف الموضوعي والعملي بين الكارتيلات والمصارف والعصابة السياسية وحزب الله)، أخضع اللبنانيين ودجّنهم إلى أن انخفضت مطالبهم إلى الحد الأدنى: الصمود والبقاء على قيد الحياة.

الاحتجاج على المصارف انتهى، العصيان السياسي جرى قمعه نهائياً، والمعارضة أو القوى البديلة تضاءلت جداً، الضغوط الدولية تتلاشى، الولاءات الطائفية انتعشت، كبح القضاء وإخضاعه يستمر رغم المقاومة الأخيرة واليائسة التي يبديها "الفدائي" الأخير القاضي طارق البيطار، السلطة تستعد لانتخابات نيابية مضمونة النتائج سلفاً، ستجدد فيها شرعيتها. ما كان مطلوباً من الحكومات السابقة لم يعد كذلك. فالحكومة الحالية متحررة من أي تحديات. شعب مستسلم ومجتمع دولي مساير. 

هكذا تبدو لهم حكومة نجيب ميقاتي-ميشال عون-حزب الله، رأفة والتفاتة إنسانية ومنحة هائلة ونعمة لا يجوز التكبر عليها. وسنكون جاحدين إن لم نحمدها. هذا ما نبهنا إليه ميكروفون الحكومة الوقور: من الآن فصاعداً، كرامة السلطة ورموزها قبل كل شيء.

بهذا المعنى، إنها أقوى حكومة لبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها