الثلاثاء 2021/09/21

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

التوترات الفرنسية-الأميركية في العالم: لبنان يؤثر ولا يتأثر

الثلاثاء 2021/09/21
التوترات الفرنسية-الأميركية في العالم: لبنان يؤثر ولا يتأثر
تعاون الحليفان مراراً في المسألة اللبنانية، وأبرز محطة كانت عام 2004 مع صدور القرار 1559 الشهير (Getty)
increase حجم الخط decrease
هل يتأثر لبنان بتداعيات أزمة الغواصات الأسترالية، التي انفجرت بعد إقدام كانبيرا على فسخ عقد شراء غواصات تقليدية فرنسية، واستبداله بآخر لشراء غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي؟ هل يمكن للتوترات الدبلوماسية الفرنسية-الأميركية، على خلفية الصفعة التي وجهتها واشنطن لباريس في ملف الغواصات، أن تنعكس سلباً على إدارة الأزمة اللبنانية؟ أم أن الدولتين الغربيتين الحليفتين، فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تعتمدان منطق فصل الملفات، خصوصاً الملفات الدولية الاستراتيجية وتلك الإقليمية؟

هذه التساؤلات المطروحة اليوم في لبنان، تذكّر بقول شهير، يعود لحقبة الحرب الباردة، ومفاده أنه "عندما تغيّم في موسكو، تمطر في بيروت". لكن هذا التوصيف غير دقيق، شأنه شأن التوقعات بانعكاس التوتر الحاد في العلاقات الفرنسية-الأميركية على الوضع اللبناني. استبعاد احتمال كهذا يعود لأسباب عدة، أبرزها:

الخلاف متجذر أصلاً
أولاً، المسألة اللبنانية نفسها هي موضوع خلاف متجذر أصلاً بين باريس وواشنطن. إذا كان هناك تنسيق مشترك أدى إلى حصول انفراج نسبي، مع تشكيل حكومة لبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، فهذا لا يخفي التباين التقليدي بين سياسة فرنسا وسياسة أميركا تجاه لبنان. الأولى تنظر إليه كمنطقة نفوذ أساسية في المشرق العربي. كموطئ قدم وقاعدة أمامية. فتجعله يتصدر محور اهتماماتها وتتعامل معه كملف ذات أولوية. في المقابل، تنظر الثانية إلى لبنان كجزء من كل. فتُقارِب الملف اللبناني من منظور شرق أوسطي أشمل.

هذه الخلفيات المتعارضة، تفسّر مثلاً التباين الفرنسي-الأميركي بشأن سبل حل الأزمة والعملية السياسية في لبنان. باريس ترفض ما يمثله حزب الله لكنها لا تريد عزله، وتدعم الحل التوافقي معه بعيداً من المنحى التصادمي. وتعتبر أن هذه السياسة تجنّب لبنان انقساماً خطيراً وحالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني. على عكس واشنطن التي تسعى لإضعاف وعزل حزب الله، بوصفه أداة من أدوات السياسة التوسعية الإيرانية في الشرق الأوسط، وكونه يمثل "تهديداً" لأمن إسرائيل. وحتى لو أدى ذلك إلى نتائج سلبية في لبنان.
وعليه، فإن أي تنسيق تقني أو ظرفي بين الفرنسيين والأميركيين لا ينفي وجود التناقضات الجوهرية بينهم بشأن المسألة اللبنانية. تماماً كما هو حال الاختلافات التي لا تمنع حصول تعاون ظرفي ومحدود لحلحلة بعض العِقَد على الساحة اللبنانية.

أزمة لبنان 1958 وما بعدها
ثانياً، التجارب التاريخية بين باريس وواشنطن تفيد بأن خلافاتهما بشأن مسألة دولية معيّنة، لا تنسحب بالضرورة على مسائل أخرى. ومهما أصرت فرنسا على استقلاليتها، ومهما أظهرت تمايزها هنا وهناك في العالم، فهذا لا يؤثر على تحالفهما الوثيق، ضمن المعسكر الغربي، تارةً بوجه الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية، تارةً أخرى بوجه الإرهاب الإسلاموي.

مثلاً، الخلاف الكبير بين باريس وواشنطن على خلفية أزمتي لبنان والأردن في تموز 1958، حين حصل تدخل أميركي في بيروت وبريطاني في عمان، مقابل استبعاد فرنسا من هذا التدخل.. استشاط شارل ديغول غضباً آنذاك، ووجه لحليفيه "مذكرة" شهيرة في 17 أيلول 1958، ليطالب بوضع آلية تشاور ثلاثية الأطراف، حتى تكون فرنسا شريكاً فاعلاً مع بريطانيا وأميركا في عملية صنع القرار "الأطلسي"، محذراً من انسحاب بلاده من "الحلف الأطلسي" ما لم يتحقق مطلبه. وهو خلاف مهّد لاتخاذ ديغول قرار خروج فرنسا من القيادة الموحدة للحلف، في آذار 1966 (الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، قرر عودة فرنسا إلى هذه القيادة الموحدة عام 2007).
ساهمت الأزمة اللبنانية عام 1958، إذاً، بتفاقم خلاف ذات طابع إستراتيجي بين الفرنسيين والأميركيين. لكن هذا الخلاف الكبير لم يمنع تقاطعهما على دعم انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، بعدما نضجت شروط التسوية أميركياً مع مصر جمال عبد الناصر.

أزمتا برلين والصواريخ الكوبية
بعد ذلك، ساد خلاف فرنسي-أميركي بشأن إدارة أزمة برلين عام 1961، حين أقدم السوفيات على تشييد الجدار الذي يفصل بين شطري المدينة، الشرقي والغربي. كان ديغول منزعجاً مما اعتبره غياب الإرادة والحزم لدى واشنطن في التصدي للسياسة السوفياتية في برلين.

بيد أن كل هذه التباينات لم تمنع فرنسا من الوقوف بشكل كامل وحازم و"متفاني" (حسب تعبير بعض المؤرخين) إلى جانب الولايات المتحدة خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والتي كادت تشعل حرباً نووية مع الاتحاد السوفياتي.

فلسطين وحرب العراق والقرار 1559
ثمة أمثلة أخرى يمكن إيجازها، وتظهر أن تاريخ العلاقات الفرنسية-الأميركية هو مزيج من التنافس والتعاون والتباين والتقاطع. فالخلاف بشأن الصراع العربي الإسرائيلي منذ 1967، والأراضي المحتلة والدولة الفلسطينية المستقلة، لم يحل دون حصول تعاون أميركي-فرنسي في لبنان عام 1982 لإخراج "منظمة التحرير الفلسطينية" من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي. والأزمة الحادة عام 2003، بسبب اعتراض فرنسا على حرب العراق، لم يمنع تعاون الحليفين في لبنان عام 2004، ووقوفهما خلف صدور القرار 1559 في مجلس الأمن، لإخراج الجيش السوري من لبنان (...).

الحاجة للدور الفرنسي؟
هذه الأمثلة وغيرها تشير إلى اعتيادية الخلاف وثبات التحالف بين باريس وواشنطن. وعلى قاعدة فصل الملفات، يمكن لعملية التنسيق الفرنسية-الأميركية بشأن لبنان أن تتعقد، لأسباب منفصلة عن أزمة الغواصات الأسترالية. لكن لا يمكن لهذه الأزمة أن تُعطّل الأجندة المحددة مسبقاً لإدارة الملف اللبناني، لاسيما في ما يتعلق بالمفاوضات المقبلة مع صندوق النقد الدولي، والتسهيلات التي قدمتها الإدارة الأميركية لاستيراد الغاز المصري ونقل الكهرباء الأردنية إلى لبنان عن طريق الأراضي السورية. والأهم من ذلك، إذا كان الأميركيون مصممين على العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ثم الانسحاب فعلاً من العراق وسوريا، فمن شأن ذلك أن يزيد من حاجتهم إلى الدور الفرنسي في منطقة شرق البحر المتوسط.

مقايضة فتهدئة: بأي ثمن؟
لا شيء يمنع، في هذا السياق، من اعتماد منطق المقايضة لتحسين شروط التعاون بين الحلفاء الغربيين على قاعدة الربح المتبادل. طبعاً، تلقت فرنسا بالدرجة الأولى خسارة اقتصادية (قطاع الصناعة العسكرية) جراء فسخ عقد الغواصات معها بقيمة 56 مليار يورو. وما حصلت عليه فرنسا في العراق من صفقة نفطية بقيمة 27 مليار دولار، قد لا يكون كافياً. وبالتالي، قد يطالب الفرنسيون بثمن آخر، مقابل التهدئة وطي صفحة الأزمة الخطيرة في العلاقات الفرنسية-الأميركية. كأن تنتزع باريس ربما بعض المكاسب الاقتصادية الإضافية في شرق وجنوب المتوسط، إذا ارتأت واشنطن إرضاء فرنسا، كتعويض ولو محدود عن خسارتها "صفقة العصر" مع أستراليا. هنا، قد لا يكون لبنان خارج طاولة المقايضة المحتملة.

"لا عودة إلى عقيدة مونرو 1823"
هذا لن يعني العودة إلى "عقيدة مونرو" عام 1823، التي تكرس بموجبها اتفاقاً بين الأميركيين والأوروبيين، ينص على أن كل طرف يمتنع عن التدخل في الملعب الخلفي للطرف الآخر. لأن ما تقوم به واشنطن هو تحجيم للدور الفرنسي في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا، التي تعتبرها أميركا حيوية واستراتيجية بمواجهة الصين. وفي المقابل، ستحافظ واشنطن على حضورها في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط، لكن قد تترك لحليفها الفرنسي هامشاً للتحرك. ضمن ضوابط طبعاً، لعدم المس بالمصالح الأميركية العليا: أمن إسرائيل، والنفط، والحفاظ على شبكة الحلفاء في العالم العربي والإسلامي.
أما المنافع الفرنسية فستكون مرضية في حال اعتُمِد هذا السيناريو. من بينها ربما تسهيل دخول الشركات الفرنسية من جديد إلى الأسواق الإيرانية الواعدة، إذا تم رفع العقوبات على طهران(؟). 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها