الإثنين 2021/09/20

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

القوس الشيعي: بين حاله وأحوال معارضيه

الإثنين 2021/09/20
القوس الشيعي: بين حاله وأحوال معارضيه
شيئاً فشيئاً، صارت إيران داخلية في لبنان بمقدار ما صار لبنان داخلياً في إيران (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
هلال شيعي، أم قوس شيعي، الكلمتان تشتركان في الشكل الهندسي الذي يفيد الإحاطة بالشيء، من خلال انحناء خط استدارته، وتفترقان في الإحالة إلى المعنى، حيث يصدر الضوء عن الهلال، ويخرج السهم القاتل من القوس.. وفي حال توسيع المعنى وقصده، قد تصير الإحاطة الضوئية "خنقاً  مظلماً" في نهاية المطاف. في الحالتين، يتوقف الأمر على الهدف، لدى رامي القوس، ولدى "رامي" الإشعاع، سواءً بسواء.

نقل الكلمتين ومعناهما، إلى الواقع اللبناني، ومتابعة الاجتهاد في تأويلهما، يجعلان الدمج بين المفردتين، ومقاصدهما، حالة ملموسة عيانية، في الداخل اللبناني، وفي عمقه العربي، ومثلما يُطرح السؤال عن ارتدادات الأهداف، داخلياً، يطرح السؤال ومتفرعاته على الخارج العربي، الذي يشترك مع لبنان، في حصاد نتائج هذه الارتدادات.

اعتراف استهلالي
لكي يستمرّ تقليب الأمور على جادة المعاينة الملموسة، ينبغي القول، إن ثَمّة تعديلاً، في الميزان الداخلي اللبناني، قد حَصَل، وإن تعديلاً مماثلاً، لا تُخْطِئُه العين المراقبة، قد طَرَأ على ميزان قوى الإقليم، التي تَنْشَط "نُفوذِياً" فوق المساحة اللبنانية.. تعديل الميزانين، واختلال مَثَاقَيل كفَّتَي كلّ منهما، حصلا تراكميّاً، واستغرقا زمناً كافياً  لحدوثهما. وكما هو معلوم، دارت معارك الموازين في أكثر من ميدان عربي وأجنبي، ممّا كان له آثار ونتائج وأعراض سياسية، بَانَتْ تجليّاتها لدى كل أطراف الصراع.

في سياق الاستهلال التقريري أعلاه، ما نصيب لبنان من الحصيلة الصراعية؟ وما هي العوامل التي جَعَلَتْ هذه الحصيلة، تلامس حدود انهيار التوليفة الكيانية الداخلية؟ وما هو السياق الخارجي، الذي "بّرَدَتْ" حَمِيّتُه، فآثر التلكؤ في المبادرة إلى كَبْحِ تسارع النار، في هَشِيم البنية الداخلية؟

لبنان في حلبة إشكالاته
الداخل أولاً، ومعادلة الداخل والخارج، لن تبدّل في مسؤولية طرفيها، فالداخل سيظلّ مسؤولاً دائماً عن إدارة أحواله. وفي سياق التشديد على دور الداخل المفصلي، لم يقدّم تاريخ البنية اللبنانية، حتى تاريخه، سوى سيرة إشكالية، وَرِثَها لبنان الكبير، وَوَرِثَتْهَا كلّ العهود الاستقلالية اللاحقة.

راهناً، ولأن الراهن هو "مربط" جملة الكلام، وَقَع لبنان في أَسْر التجاذب الإقليمي-العربي. وكما في كل طَوْر تجاذبي، خسر فريق لبناني وفاز فريق آخر، باعتماد رهان سياسي لبناني خلِافي، وبالاتِّكاء على قوى غير لبنانية، تَسْتَثْمِر في الرهان، وفي الاختلاف على ملاءمته، لِمَا هو مُتَعَارَف عليه لبنانياً، مِمّا كان موضع توافق "صِيْغَوَي" لفظي، جرى الانقلاب عليه، بعد مباشرة كتابة ضرورات ومحظورات، الأيام.

من الرهانات التي كانت سبباً في الشقاق اللبناني، رهان العروبة "الناصرية" ورهان مناهضتها. وفي السياق ذاته، رهان العروبة الفلسطينية ورهان مخاصمتها. ومن جعبة الشقاق، رهان اللبنانية السورية ورهان معارضتها، ومغامرة اللبنانية الاسرائيلية فمغامرة قتالها.. والآن، وحتى تاريخ غير معلوم، تتوزّع التكتلات الأهلية، بين رهان اللبنانية الإيرانية، وبين معارضاتها التي تَتّخِذُ من "السيادة والاستقلال والديموقراطية"، شعارات لها.

حصيلة الرهانات التاريخية السالفة كانت خسارة سياسية واضحة لأصحابها. وإذا كان لا بديل من ذكر أسماء كي لا تحال المسؤولية إلى مجهول، سيكون واقعيًا القول إن "المسيحيّة"، بقيادة مارونيتها السياسية، قد خسرت رهاناتها "اللبنانية". وإن "الإسلامية"، وبعد طول سياق تراكمي، تمخّضت عن "سنيّة" خاسرة، منذ اغتيال رمز نهوضها الجديد، الرئيس الراحل رفيق الحريري، مثلما  قدّمت "شيعية" ظافرة، حملها إنجازها التحريري من جهة، ورفعها عالياً نجاح راعيها، وداعمها الإيراني، في عدد من الساحات العربية وغير العربية.

ما الحصيلة داخلياً؟ تقدُم غَلَبَة أهلية على سواها، وضخّ عناصر احتقان جديدة في بنية الاحتقان الأهلي، وتشريع باب الاستنسابات، التحالفية والالتحاقية، بهذا المحور الخارجي أو ذاك، ممّا يُدِيْم بقاء الجسد اللبناني على طاولة التشريح الدوليّة والإقليميّة.

إيران في لبنان
شيئاً فشيئاً، صارت إيران داخلية في لبنان بمقدار ما صار لبنان داخلياً في إيران. تركيز هذه المعادلة أنجزته "الشيعية"، بقيادة حزب الله، وأعلنت ولادته إيران، عندما جعلت العاصمة بيروت، واحدة من بين عواصم نفوذ" الجمهورية الإسلامية".

بادر البعض إلى وصف قوس النفوذ بالهلال، هذا الذي اكتملت إضاءته واقعياً، وما زال في انتظار تحديد مداه الفضائي سياسياً. على صعيد التحديد: النفوذ الإيراني واقع غير ملتبس في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. لكن الحاجة مازالت ماسّة إلى القبول الدولي الذي يدفع عن النفوذ كل التباس. في هذا المضمار، تخوض أيران صراع تحسين شروطها مع الغرب، ومع الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص. أي مع الجهة التي تستطيع تقديم درع تثبيت النفوذ، لكل طامح دولي أو إقليمي. قراءة الخلاف الإيراني الغربي على هذه الخلفية، تنزع صفة مقاومة الاستكبار عن السياسة الإيرانية، وتدرج وسائطها، ومن ضمنها حزب الله اللبناني، في سياق معركة تحسين الشروط الوظيفية الآنفة الذكر. باختصار، يريد الساسة في إيران الاعتراف بدورهم "كشرطي" أول في الخليج العربي، مع ما ينطوي عليه هذا الاعتراف من مكاسب ومن ميزات تفاضلية.

في ميدان النفوذ والطموح السياسي، تحتفظ كل دولة بحقّها في تقدير مصالحها، وفي العمل من أجل تحقيقها. وتأسيساً على النظرة المصلحيّة تلك، يحتفظ كل بلد بحقّه في الاعتراض على سياسة كل دولة تستبيح مصالحه من أجل تحقيق مآربها الخاصة. في هذه الخانة، يقع اعتراض بعض لبنان على السياسة الإيرانية وعلى امتدادها الداخلي اللبناني، الذي يضمّ الشيعية وعدداً من حلفائها في المذهبيات الأخرى.

الاعتراض المشار إليه مشروع ومطلوب بمقدار ما يقف على أرضه اللبنانية، الواضحة وطنياً واستقلالياً. فهنا نجاحه. والاعتراض مُعْتَرَضٌ عليه بمقدار ما يلتبس بالالتحاق بمحور مناوئ، وبمقدار ما يتحوّل إلى أداة صراعية لهذا المحور، يخوض الصراع عنه بالإنابة ضد قوى الداخل التي سبقت إلى الالتحاق. والحال، أن السياسة اللبنانية المعارضة يجب ألاّ تدور بين ملتحق وملتحق، بل بين وطني استقلالي تحرّري حقاً وبين من تفوته كل هذه الصفات.

لكن، هل توفّر الحالة اللبنانية هذا الوضوح الاعتراضي؟ الجواب ينفي حتى السؤال، لذلك تنجلي لوحة الصراع الداخلي عن تعقيد موروث، يجدّد راهنيته دائماً، هو موروث الاستقواء بالخارج، وموروث تقديم التنازلات له، ورفض صياغة تسوية واقعية مع أطراف في الداخل. تسوية تستجيب لأمرين: الأول، هو الذي يعكس حقيقة الواقع الداخلي، والثاني، وهو الأهم، هو ذاك الذي يعرف بدقّة أحكام توازنات البنية اللبنانية، فلا يلقي على أكتاف سلطتها وحكوماتها ومواثيقها وأعرافها ما قد تنوء بوطأة أثقاله.

لبنان وعروبته
فقدت العروبة أسانيدها الفكرية والبرنامجية، وعجزت الشعارية الجوفاء عن جعل فضائها الوهمي بديلا من ثقل الوقائع المادية. عليه، وعندما نُقِيم الصلة بين لبنان والعروبة، نحرص على عدم تجاوز مفردة العروبة لمضمون البلاد العربية، بما هي عليه الآن.. آنها الذي يستوجب قراءة مفصلة في أحواله.

من الماضي القريب، غلبت على عروبة لبنان الرسمية معادلة "الغُنْم"، من دون" الغُرْم". هذه المعادلة اضمحلت تباعاً، فصار لبنان في سياسات "أشقائه" غُرماً يكاد يكون صافياً. الشواهد على ذلك عديدة، ومنها:

ترْك لبنان لمصيره، وهو يصارع سوء أحواله. محاصرة لبنان بطلبات هي أقرب إلى فرض الشروط، في مجال صياغة مواقفه وتشكيل حكوماته. دعوة لبنان إلى انحياز أهلي محدّد في مواجهة انحياز طرف أهلي آخر، ممّا يستبطن احتمال اندلاع نزاع أهلي "ساخن" لا يريده أحدٌ من اللبنانيين. إقصاء شخصيات سياسية محليّة، وتلميع شخصيات أخرى ودعمها، مما أصاب بعض المعترضين على النفوذ الإيراني ضعف سياسي إضافي.

سياسة المحيط العربي المنوّه عنها، انطوت على التخلّي من جهة، وعلى التلاعب بالوضع اللبناني من جهة أخرى. مما ضاعف خسارة السياسة العربية هذه، ومما ساهم في تعظيم الربح الإيراني، الذي تسعى السياسات المذكورة إلى تحجيمه، أو إلى الحدّ من انتشاره، مرحلياً.

ما الأمثولة التي يجب أن يستخلصها لبنان؟ خلاصة من بنود موجزة، تتضمن ضرورة إدراك وزن لبنان المتضائل في موازين سياسات أشقائه. حقيقة اتساع قوس الهلال الإيراني ليحيط بجغرافيا لبنان السياسية، بهدوء، وبما يشبه الرضى الداخلي من قبل الأغلبية. الاقتناع بفقدان لبنان لأولويته ومميزاته لدى صانعي القرار الدولي. التبصّر والحذر الشديد اليوم، في مواجهة سياسات رسْم الخرائط الجديدة في المنطقة العربية، وفي جوارها. أخْذُ العلم، بأن "الدولي والإقليمي" يناقشان توزيع الحصص على دول المركز في الإقليم، ولا يعيرون كبير اهتمام، لمبادئ الاستقلال والحرية وتقرير المصير.

اليوم، وغداً، المطروح على طاولة المقايضة مآل بلاد، ومصائر هويّات لبنانية وعربية. هل ستفهم العرب مجدّداً، بعضاً من العربيّة؟ هل ستنتبه العرب، إلى شيء من الخطر المحيق باللبنانية؟ يصعب الجواب كلما تفاقمت صعوبة السؤال.. والأحوال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها