الإثنين 2021/08/30

آخر تحديث: 16:47 (بيروت)

ماكرون وحزب الله على خط بيروت-بغداد: مكاسب إيران وفرنسا

الإثنين 2021/08/30
ماكرون وحزب الله على خط بيروت-بغداد: مكاسب إيران وفرنسا
ضمان المصالح الفرنسية مع إيران وفي مناطق نفوذها من العراق إلى لبنان (Getty)
increase حجم الخط decrease

للوهلة الأولى، يمكن القول إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سجّل نقطةً لصالحه وعزز رصيده في مجال السياسة الخارجية، من خلال مشاركته، يوم السبت 28 آب 2021، في اجتماع إقليمي، في بغداد، كان لإيران حضور أساسي فيه. يمكن الذهاب أبعد من ذلك والزعم بأن ماكرون عوّض من بغداد عما خسره في لبنان، بعد فشل المبادرة الفرنسية لتشكيل "حكومة مهمة". المكسب، إنْ صح التوصيف، هو معنوي ورمزي على الأقل حتى الآن.

لكن، تجنباً للأحكام المتسرعة، يمكن القول إن الإنجاز العراقي لفرنسا ولماكرون، كان يمكن ألا يكون، أو ألا يكون بهذا الشكل والحجم، لو لم يكن هناك نجاح لبناني آخر، حققته دبلوماسية ماكرون، في مقابل انتكاس مبادرتها بشأن "حكومة المهمة". يتعلق الأمر بقدرة فرنسا على تكريس نفسها كمتحدث غربي مستمر وذات صدقية لحزب الله، الحليف المهم لإيران.

الرابط بين العراق ولبنان
وهذا واقع لا يجوز التقليل من أهميته. كان يمكن لفرنسا أن تغيب عن اجتماع بغداد، لو كان هناك رفض إيراني مطلق لحضورها. وكان يمكن أن يقتصر تمثيلها على مستوى دبلوماسي أدنى رتبةً، كأن يحضر وزير أو مبعوث رئاسي خاص أو سفير، لو أن إيران اعتبرت أن حضور رئيس الجمهورية الفرنسي يمثل خطوة استفزازية أو "وقاحة إمبريالية غربية". على العكس، بدت إيران راضية ومتعاونة، وكأنها مستعدة للقبول بدور فرنسي ما في العراق. فهل كان هذا الانفتاح المتبادل ممكناً لو اتبعت الدبلوماسية الفرنسية نهجاً متشدداً و"عدوانياً" إزاء حزب الله اللبناني، على غرار النهج الدبلوماسي الأميركي؟

قد لا يبدو الربط بين ملفي العراق ولبنان مبرراً في نظر البعض، ارتكازاً إلى حجة تقول بأن براغماتية الدول يمكن أن تؤدي إلى فصل الملفات عن بعضها البعض. لكن في منطقة تنظر إليها إيران باعتبارها مجالاً حيوياً لها، والممتدة من العراق إلى لبنان، من الخليج إلى البحر المتوسط، لا يمكن الفصل بين ملفاتها بشكل مطلق. ولفرنسا أيضاً حسابات "جيوبوليتيكية" تقودها إلى الربط بين الملفات والمسائل. فهي تعتبر لبنان قاعدة أمامية لها في الشرق الأوسط، تخولها العبور والدخول إلى دول أخرى في هذه المنطقة لتأمين مصالحها. هي لا تضحّي بلبنان على مذبح مصالحها الإقليمية، لكنها لا تريد أن يكون لبنان عقبة أمام سعيها لتحقيق المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية في الشرق الأوسط.

دينامية الحوار
بهذا المنحى، يمكن النظر إلى المكانة التي اكتسبتها فرنسا اليوم في العراق، بوصفها تتويجاً للتهدئة أو لدينامية الحوار التي حافظت عليها فرنسا مع إيران. أولاً من البوابة الإيرانية نفسها، بوابة الملف النووي، حيث تؤدي باريس دور الوسيط، ثم من البوابة اللبنانية حيث تدير بنجاح وبمهارة وبمثابرة سياسة اليد الممدودة تجاه حزب الله، مما يسهل لها عملية التوسط بين جميع الأطراف اللبنانية المتناحرة.

طبعاً، هذه السياسة قوبلت بانتقادات حادة. يحمّلها البعض مسؤولية فشل المبادرة الفرنسية تحت حجة أن التراخي مع هذا الحزب جعله يناور ويتشدد أكثر. وذهب البعض الآخر إلى حد الحديث وباستهزاء عن تخبط دبلوماسي فرنسي في لبنان منذ زيارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت في 6 آب 2020، بعد يومين من جريمة تفجير مرفأ بيروت. فطرحَ آنذاك فكرة ميثاق وطني جديد بين اللبنانيين لكن تم سحبها بسرعة من التداول. وتكوّن انطباع بأن فرنسا تدعم تشكيل "حكومة وحدة وطنية" ثم "حكومة تفاهم وطني" ثم انتهى الأمر بصيغة "حكومة المهمة". بعدها، قيل إن باريس تنازلت عن مبدأ المداورة في "حكومة المهمة"، عندما "وافقت" على بقاء وزارة المالية بيد الثنائي الشيعي، المكوّن من حركة أمل وحزب الله. وهذا ما أعطى ذريعة لبقية القوى السياسية كي ترفض المداورة في وزارات كانت من ضمن حصصها في الحكومات السابقة. ويُحكى عن انقسام داخل الإدارة الفرنسية بشأن الملف اللبناني، ما ساهم في العجز عن تحقيق أي خرق بشأن تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة.

كل تلك التقديرات والتحليلات والتكهنات قد تصح أو تخطئ. إلا أن الشيء الأكيد يتمثل في أن سياسة فرنسا تجاه لبنان لا تزال تحافظ على ثوابتها: ضمان الاستقرار والتوازن والحفاظ على نموذج التعايش بين الطوائف.

المرونة والبراغماتية
صحيح أن هناك غضباً فرنسياً علنياً من حكام لبنان، وتأنيباً مستمراً لهم. وهناك عقوبات لكن من دون أسماء معلنة. وصحيح أيضاً أن هناك تشدداً مع حزب الله، لا يمكن نفيه، لكن هناك أيضاً ليونة لا يمكن إخفاؤها. لم تغير فرنسا مواقفها تجاه الحزب: جاهر ماكرون من مرفأ بيروت في مطلع أيلول 2020 ويجاهر دوماً بأن فرنسا تصنف الجناح العسكري للحزب كمنظمة إرهابية. لكنها تفصل بينه وبين جناحه السياسي الذي تعتبره وتريده أن يكون وأن يبقى متحدثاً سياسياً، وتعترف به كطرف يمثل مكوناً أساسياً من مكونات لبنان. في الدبلوماسية يعبّر هذا السلوك عن نوايا حسنة. فعلى الرغم من مساهمة حزب الله وغيره من القوى السياسية في إفشال المبادرة الفرنسية، إلا أن جلوس ممثل للحزب على طاولة الرئيس ماكرون في قصر الصنوبر في السفارة الفرنسية ببيروت، هو حدث قائم بذاته. ويندرج في مسار منفصل عن مسار المبادرة الهادفة إلى إعادة ترتيب الوضع الحكومي اللبناني. فشل المسار الثاني لم يقوّض على ما يبدو المسار الأول. ولم يبطل مفاعيله.

هنا، ثمة فكرة طرحت في أواخر صيف 2022 ومفادها أن قلب ماكرون على لبنان، لكن عينه على سوريا والعراق وإيران.. وهذا يعزز فرضية أن انفتاح فرنسا على حزب الله وليونتها تجاهه في لبنان، هو ممر تصل من خلاله إلى تعزيز مصالحها في مناطق خاضغة لنفوذ إيران وفي داخل هذا البلد نفسه. قد ينطوي هذا الحكم على شيء من التحامل على الدبلوماسية الفرنسية. لأنه يقود إلى الاستنتاج بأنها انتهازية. لكن يبدو أن لدى فرنسا استراتيجية شاملة تجاه دول المشرق، تحتمل المرونة والبراغماتية، والتراجع هنا والتقدم هناك. لكن ثمة رابطاً أساسياً بين المسائل، وهو يفرض نفسه بحكم الواقع، لاسيما بسبب وجود معطى واحد يتمثل بالسياسة التوسعية الإيرانية. وهذا الرابط يستوجب بدوره الانسجام في التعامل مع الملفات. فلا تفرّط فرنسا بمسائل السيادة لا في العراق ولا في لبنان. لكن تحقيق الهدف لا يعتمد طرقاً صدامية مع إيران وحلفائها في كلا البلدين.

حسابات استباقية
كذلك، لا يمكن تجاهل أن هذا السلوك الفرنسي يندرج اليوم في سياق التطور الإقليمي الأبرز المتمثل في سرعة سيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي والغربي من هذا البلد. لا يمكن بالتالي غض النظر عن احتمال وجود حسابات استباقية فرنسية تتعلق بالنجاح المرجح للمفاوضات الأميركية الإيرانية بشأن الملف النووي. هكذا تشكل الليونة الفرنسية عاملاً مساعداً ربما لإنجاح هذه المفاوضات، من جهة، ولضمان المصالح الفرنسية مع إيران وفي مناطق نفوذها من العراق إلى لبنان، من جهة أخرى. فإذا تم التوصل إلى تسوية بين طهران وواشنطن، ستحفظ باريس مكاناً لها في المعادلة الشرق أوسطية الجديدة. وإن فشل الاتفاق، ستبقى فرنسا محاوراً لإيران ووسيطاً بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. في الحالتين، يبقى السؤال في معرفة ما إذا كانت "نجاحات" فرنسا ورئيسها ماكرون في العراق وفي الإقليم، كفيلة بتذليل العقبات من أمام المبادرة الفرنسية لحل الأزمة اللبنانية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها