وفي رحاب الانتظام الرسمي الجديد، أبْدَتْ السنيّة السياسيّة تسليما عامّاً موقتا، بهيمنة المسيحية السياسية، ولم تظهر الشيعية السياسية امتعاضاً صاخباً من حلولها في موقع الدرجة الثانية، على سُلَّم الهرميّة الرسميّة، التي لم تكن، أي الدرجة، ثانية على سُلّم سلطة التَصرّف بالقرارات العامّة الوطنية.
لقد تَكَفّلَت الأحداث المتوالية، بتغيير كلمات كثيرة، من فقرة مضمون ومعنى رئاسة الجمهورية، مثلما تَكَفّلَت بإضافة مفردات إلى الفقرات الخاصة بالرئاستين الثانية والثالثة. وفقاً لذلك، أعطت النزاعات الأهلية إشارة الانطلاق لتقادم معنى، و"لتحديث" معنى، واحِدٌ من مدخل الحَذْف منه، وثانٍ من مدخل الإضافة إليه... وما كان الأمر دائماً، من صنيع منافسي الهيمنة فقط، بل إن طرف الهيمنة الأول، أي المارونية السياسية، كان شريكاً أساسياً، من خلال رهاناته التي باءت بالخسران، ومن خلال حروبه ضمن بيئيته، التي زادته وهْنَاًعلى وَهْن.
رؤساء
سمع اللبنانيون "بالرئيس القوي" مع وصول رئيس التيار العوني إلى موقع رئاسة الجمهورية. هذا وصْفٌ لا تُقرِّه الحالة اللبنانية، وما هو معلوم من هذه الحالة، أن كلّ رئيس قويٍ في طائفته، هو رئيس ضعيف لدى الطوائف الأخرى. شَرْحُ المعادلة سَهْل يسير، كلّ قويٍّ ضمن الخاصّ الطائفي، ضعيف بالضرورة ضمن العامّ الأهليّ، فالقوة إذن، غير عابرة، ولا ترجمة أكثريّة فسيحة لها، خارج نطاق معناها "الأَقَلِّي" الضيّق. كخلاصة: لا يكون رئيس الجمهورية أكثرياً إذا كان قويًّا مذهبياً، أو طائفياً. لعلّه من المفيد استرجاع أسماء رؤساء جمهورية سابقين، للإضاءة على معادلة الأقلّي والأكثري، التي استبدلها حرّاس الأقليّة اليوم، بعنوان القوّة المسيّج بقلّة دراية العصبيّة الحزبيّة والمذهبيّة.
لقد كانت رئاسة الشيخ بشارة الخوري، تعبيراً عن نُزُوع استقلالي أكثري، وهذا صنعه تضافر الداخل والخارج. رئاسة كميل شمعون، أتت بها أكثرية أخرى، قامت على أنقاض النهْج الأقلّوِي الذي انتهى إليه عهد الشيخ بشارة الخوري. فؤاد شهاب، جاء بأكثرية واضحة، وضعت حدّاً لشطط أقلية كميل شمعون، الذي ذهبت به رهاناته الخارجية. شارل حلو، ورث ديمومته من قوة دفع الشهابية، أما سليمان فرنجيّة، فقد فاز بصوتٍ واحدٍ ترجيحي، أنهى الشهابيّة التي تحوّلت إلى أقلية أجهزة مخابراتية، لكنه افتتح عهد صراع داخلي انتهى بِتَشَظّي الانتظام الداخلي، مما نَجَمَ عنه تعذّر الوصول السهل إلى بناء أكثرية طائفية داخلية جديدة، والتأسيس لتبدلات موازين الداخل التي لم يفلح في استدراكها عهد أمين الجميل، الحزبي، ولا العهود اللاحقة التي ألحقها اتفاق الطائف بقوى الوصاية الخارجيّة.
أين يقع عهد الرئيس ميشال عون ضمن سلسلة تلك العهود المتعاقبة؟ الجواب مكتمل المعطيات: يقف العهد الحالي، على أرض الالتحاق الداخلي، واستطرادا على أرض التَمَحْوُر الخارجي. على سبيل التفصيل، تحالف رئيس العهد، مع حزب الله، رأس حربة الشيعية السياسية، ليصير رئيساً، أمّا القبول به، فكان في صيغة الفرض والقهر، على حليفي ضرورة، هما: الرئيس سعد الحريري، وسمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية. بناء على ذلك، يصحّ القول، إن صفة الأقلية هي الصفة الحقيقية للعهد الحالي، هذا، وكما سبق ذكْرُه، حَمَلَه قبول مفروض، من قِبَلِ فئة سياسية "فارِضَة"، ممَّا يعني، أن الفئوية هي مبتدأ العهد الحالي وخبره، وهذا ينفي القوّة العمومية عنه، ويضعه دائما، في موضع الخارج عن متطلبات الحكم الأكثري، بحقيقة أقَليّتِه السلطويّة الواقعية.
معارضة نهج الخسارة
تحديد نهج الخسارة، يدلّ على صياغة نَهج معارضته، عليه ما هي الخسارة التي تلحقها سياسات العهد الحالي، بالمسيحية اللبنانية؟
لعلّ الخسارة الأولى والأهمّ، هي تلك المتعلقة بخطأ الرهانات، وبخطأ الحسابات. لقد أخطأت أطراف مسيحية سابقة، عندما عَقَدَت الرهان على خارج دولي، سنة 1958، وعندما طلبت نجدة الخارج العربي سنة 1976، وعندما اسْتَقْوَتْ بالعدوّ الاسرائيلي سنة 1982، وعندما ارتَضَتْ الوصاية بعد اتفاق الطائف، وها هي النسخة العونية، تَصْمُت عن وصاية إقليمية، لها ركائزها في البُنْيَة الداخليّة.
لم يكن رمز العهد الحالي، بعيداً عن سياق أهلي ماضٍ، بل كان، ذات وقت، على إحدى ضفّتيه، وعليه، فهو مسؤول عن ماضٍ وعن حاضر، كلاهما كانا مساهمة في خسارة المسيحية اللبنانية، وهذا ممّا يُوجِب الاعتراض عليه، وممّا يُلزم العمل على معارضته، ضمن بيئته أولاً، وضمن المجال العام استطراداً.
ربما كان في الأمر طموحاً يفتقر إلى عناصره الماديّة، ربما، لكن الأساس الموضوعي لهكذا طموح يبقى قائماً. عناصر الأساس أمران بِدْئِيّان، من ضمن أمور أخرى. الأمر الأول، هو أن المسيحية اللبنانية تحتفظ بحساسية متميزة حيال "كيانها"، وهذا الحسّ غير حاضر، بكل شحنته الوجودية، لدى الطائفيات الأخرى. أمّا الأمر الثاني، فهو تصنيف الالتحاق بالأجنبي، كل أجنبي، كخطر أول، أو كَشَرٍّ أول، يَجُرُّ خلفه كل الشرور...
الصمت، أو قصر النقد على كلمات مقنّعة، أو المشاركة في وهم ضمني، يعتقد بالقدرة على تصحيح الخلل باستقواء جديد، كل ذلك، يشكّل سبيلاَ إلى خسارة مسيحية إضافية... وكم يستطيع الكيان الالتفاف على المزيد من خسائره التكوينية؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها