الخميس 2021/07/29

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

السياسة والفن والفساد.. في مرفأ بيروت

الخميس 2021/07/29
السياسة والفن والفساد.. في مرفأ بيروت
يشبه سلوك الفنان كما صيغة عمله ومنجزه "السياسة اللبنانية" نفسها (Getty)
increase حجم الخط decrease

النصب المعدني الذي ارتفع على أرض الخراب في مرفأ بيروت، والذي نفذه نديم كرم، مصنوع على ما يقول "مقترفه" من بقايا الانفجار وحطامه. نصب يشبه تمثالاً بشرياً مشوهاً أسماه صاحبه "المارد"، قاصداً ربما وعلى نحو مبتذل القول أن لبنان أو بيروت سيقومان وينتصبان كمارد عظيم من بين الركام.

وعلى ما أذكر، فهذا الفنان كان قد نشر في أواخر التسعينات سلسلة من منحوتاته المعدنية في أرجاء وسط بيروت الجديد (جزيرة سوليدير)، فبدت تعويضاً عن غياب البشر في هذا القفر العمراني "الأنيق". وكانت منحوتات بلهاء أكدت وعمّقت أكثر الشعور بالغياب والاغتراب على عكس مقاصد صانعها. وراح الناس ينظرون إليها كأعمال بالغة التكلف والادعاء، علاوة عن سذاجتها. رغم ذلك لم تكن مثار استفزاز في تلك الحقبة التي اتسمت بالتقبل الاحتفالي العمومي لكل ما يجلبه السلم والإعمار والمظاهر الجديدة التي صاحبت "الازدهار" المالي، وكانت بيروت مسرحها: الحفلات الغنائية في الهواء الطلق، عروض الأزياء، الكرنفالات، المعارض الفنية الكبيرة..إلخ.

بالطبع، كانت كلفة صنع تلك المنحوتات الكبيرة والكثيرة باهظة جداً وقد دفعتها على الأرجح شركة سوليدير، وربما تبرّع رفيق الحريري بسخاء من أجل إنجازها. نحن لا نعرف. إذ حينها لم يسأل أحد عن هذه الصفقة المربحة جداً للفنان، طالما أن المال كان وفيراً ويتبدد يميناً وشمالاً.

اليوم، عاد نديم كرم مرة أخرى، في توقيت "سياسي" يُحسد عليه من قبل أي مقتنص فرصة لـ"نجومية" من هذا النوع، ليحاول فرض نفسه كفنان للحظة التاريخية: عمل يخلد اسمه بقدر ما يخلد الذكرى- الكارثة.

يشبه سلوك الفنان كما صيغة عمله ومنجزه "السياسة اللبنانية" نفسها، بل السياسيون أنفسهم: استثمار الكارثة وتحويلها إلى خطاب سفيه، ومهين للذكاء. وهذا عدا اتسامه بالبشاعة والضحالة الثقافية، تماماً كمستوى أي سياسي لبناني في ثقافته ولغته وذوقه، الذي يجسد "الإنسان الفاسد يساوي الفن الفاسد".

لنفسّر ما نقول، النحت أساساً إما حفر في خشب وحجر ومعدن وإما تركيب وتجميع. والكائن المعدني الذي اقترفه نديم كرم من النوع الثاني وينتمي فنياً إلى ما يسمى "فن الخردة" (أو فن المهمل والنفايات..)، الذي يسعى إلى تحويل هذا المهمل والخردة إلى شكل فني وإلى جمال منبثق من النفايات. لكن حصيلة كرم كانت "خردة".. وبقيت هكذا. لكن الأسوأ أن هذه الخردة تدعي كونها فناً عظيماً، وقد تكرسها السلطة رسمياً نصباً تذكارياً وطنياً!

يجسد كل هذا مرة جديدة الكارثة التي تحيق بنا، بالمعنى السياسي والثقافي. فعلى مثال "مارد" نديم كرم، سوف يعاد إعمار المرفأ ربما. وعلى مثاله أيضاً يكون تشكيل الحكومات ونحتها. ووفق مخيلته وسويته الفنية ستكرس سردية الانفجار التي سيتعلمها التلامذة في المدارس. وحسب "أيديولوجيا طائر الفينيق" هذه، سيعاد تشغيل نظامنا المصرفي. وبروحيته الخاوية ستصاغ لغة السياسة وخطابها الانتخابي.

والأصح القول أن هناك خدعة أكبر من ذلك. أي سنتبنى أيديولوجية هذا الفنان حرفياً. يبقى الحطام حطاماً ونسميه "المارد". نقنع أنفسنا أن خرابنا بمجرد تسميته عمراناً يصير كذلك. ألم نفعلها سابقاً وسمّينا الكارثة انتصاراً.. بل واحتفلنا به فوق الأنقاض والجثث؟! 

المفارقة الهائلة التي تصفعنا هنا، أننا منذ 11 عاماً في كل مطارح الربيع العربي، نحاول إزالة الأصنام، أولئك المردة الذي ينتصبون بطغيانهم وتسلطهم فوق رؤوسنا. نحاول التخلص من الذين يتعملقون على بؤسنا ومآسينا.. ثم يأتي من يحاول فرض "مارد" الخراب علينا، وليحتل أرض ألمنا.

ربما لهذا السبب نجح نديم كرم وحده في إقناع حسان دياب وميشال عون بتبني مشروعه وعمله. إنه شبيه السلطة ومخيلتها وروحها. إنه يلبي رغبتها الدفينة في الاستيلاء على دماء ودموع وخراب 4 آب وتحويلها دعاية سياسية مقززة وناجحة في آن معاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها