الأربعاء 2021/07/21

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

الحريرية: لعبة التصفية التدميرية

الأربعاء 2021/07/21
الحريرية: لعبة التصفية التدميرية
كسر "السنيّة" السياسية في عموم المنطقة العربية (الأرشيف، خليل حسن)
increase حجم الخط decrease

اعتذر سعد الحريري بعد استنفاده. الأداء الاستنفادي كان مدروساً، وهدفه كان معلناً، وإذْ تولّت العونية بطرفيها، الرسمي والتيّاري، إدارة إسقاط تأليف الحكومة، صلاحياتياً، فإن دعم هذه الإدارة جاء من جهة حزب الله، سياسياً، وما كان للتناغم بين الفريقين أن يخفى على مُبْصِر، وما كان لتصنيف يد حزب الله يداً عُلْيَا، أن يخفى على ذي بصيرة.

تصفية الحريرية
لطرفي الإدارة الكابحة سياسياً، مصلحة تتخطى الآني إلى المستقبلي، فداعية الصلاحيات وطالبها، يظنّ بقدرة طارئة قد يقيّض لها تمكينه بقدرات مقيمة، في صناعة النظام، وفي المساهمة في رسم وجهته السياسية الغالبة. وداعية الاستراتيجية البعيدة، يكاد يستوثق من قدرته على أخذ الكيان بالجملة، إلى موقع إقليمي مركزه، هذه المرّة، خارج الديار العربية.

تمايزاً، أو تمييزاً، وعلى قاعدة الاختلاف في اختيار الأهداف البعيدة، يترك الوكيل الإقليمي فتات الصفقة للمساهم المحلّي. وهذا الأخير، لن يكون التخفّف من شراكته صعبأ، أو متعذّراً، عندما تكون ثمرة الاستراتيجيا الطويلة النفس، جاهزة لتسقط في حضن سلّة باقي الثمار..

يتقاسم الشريكان النظر إلى السنيّة السياسية القادرة، نظرة خصومة تراتبية في الكيان، ويضمر الإثنان تصحيحاً مختلفاً عن الآخر. فالمارونية ممثّلة بموقع الرئاسة، يعود تصحيحها إلى اتفاق الطائف وما بعده. والشيعية ممثّلة بحزب الله، تذهب إلى طلب تصحيح كياني "نشوئي"، متكئة على ما صار لها من وزن جديد في الداخل، وعلى انتسابها إلى دعم مشروع تجاوزي في الخارج. التصحيحان دخلا إلى الساحة السياسية من مدخل استهداف الحريرية، التي تشكّل الوزن المتقدم داخل السنية السياسية. هي عملية التفافية، لكن المآل النهائي لكل مناورة، هو الدخول في الاشتباك. وما هو حاضر اليوم، وبقوة، هو الاشتباك الذي اتسع نطاق مناورته، منذ تصفية رفيق الحريري جسدياً، وحتى لحظة منع سعد الحريري من بلوغ تشكيل حكومته، هذا المنع الذي يراد له أن يكون مدخلا إلى تصفية الإبن.. سياسياً.

لماذا الحريرية؟
الحريرية، منظورا إليها من زاوية المذهبيات السياسية، شكّلت حالة نهوض للسنّية السياسية، وأنعشت موقعها التقريري في الحكم. من العوامل التي ساعدت الحريرية، المزاج اللبناني العام، الذي نحا منحى السلمية، بعد سنوات الحرب الأهلية الطويلة، والرعاية الدولية والعربية، التي ساندت حكومات رفيق الحريري المتعاقبة، بالدعم المالي والاقتصادي شبه المفتوح، أما العامل الأهمّ، فكان دعم سلطة الوصاية السورية، التي جنّبت السلطة القائمة مخاطر الاهتزاز، ومنعت المناكفة عنها، في المستويات الرسمية النظامية، وفي الشارع الشعبي الذي لم يعرف تحركات شعبية معارضة ذات أهميّة.

رجل العوامل هذه، كان رفيق الحريري، رئيس الموقع الثالث في الجمهورية. لقد نجح الرئيس الراحل في اعتماد "خلطة" قدّمت الاقتصادي في شخصه على السياسي، فكان من نتائج ذلك تعايش "ضدّين"، العمل المقاوم، وإعادة الإعمار، وكان من النتائج نَقْصين، نقص في ممارسة السيادة، ونقص في تحقيق الاستقلالية، فناب عن الأمرين قيد تبعيّة جعلت البلد محكوماً بمصلحة من شقّين، الأول مركزه الاستراتيجي في دمشق، والثاني مركزه الملحق طهران، التي يقوم مقامها ممثلها في بيروت، وفي حين كانت حصّة السياسة الكبرى تعود إلى "الشقيق"، كانت الحصّة الصغرى من نصيب "المواطن" المحلّي" الذي يحظى برعاية نظامين شريكين في الخارج، السوري والإيراني. بين نظامي الحصص، والوكلاء، سار الحريري فكان له أن أسّس لتعاطف لبناني مختلط، وكان له النجاح النسبي في تقديم صورته كمسؤول يتجاوز الإطار المذهبي إلى الإطار اللبناني العام، وكان من شأن ذلك أن يعود بإضافة إلى "السنية" في بُعْدها العربي، هي التي شكّلت قاعدة تقليدية للعروبة، كما طرحت، وكما مورست عربياً، وكان من شأن ذلك أيضا إضافة وزن إلى السنية في بُعْدها المحلي، كطائفة مؤسسّة في الصيغة الاستقلالية.

في مدار اكتساب الوزن الإضافي، وفي مدار استثماره محليّاً، وفي مدار "خطر" امتداد عدوى الكاريزما إلى بلاد سلطات الأقليات العربية، في هذه المدارات سقط رفيق الحريري، هو الذي لم يناكف نظام الوصاية، ولم يخاصم نظام المقاومة، لكنّه لامس حدود الرمزيّة الجامعة، من موقع انتسابه السنّي، فكان لا بدّ لأنظمة الخوف الأقليّة، من مبادأة خطر احتمال بروز الظاهرة "الجَمْعية، بالتصفية الجسديّة الفرديّة. إذن، وتأسيساً على عناصر عديدة، يمكن طرح فرضية لاغتيال الحريري أساسها، كسر النهوض السياسي للسنيّة السياسية، لبنانياً، من ضمن سياق استهداف وكسر "السنيّة" السياسية في عموم المنطقة العربية.

ومع سعد الحريري
من بدأ السياق مع رفيق الحريري، تابعه مع وريثه. لقد انحنى صاحب الخطة الإقصائية للعاصفة التي تلت واقعة اغتيال الرئيس الأب، ولعلّ شدّة عصف ردّ الفعل الشعبي، ووزن الرعاية الدولية لانتفاضة الشارع، كانا مفاجأة للمدبّر الذي أراد ترسيخ خضوع الوضع اللبناني بالاغتيال. كان ترئيس سعد الحريري جزءًا من احتواء العاصفة، وكانت سياسة أخْذ الوضع اللبناني بالنقاط، هي البديل عن سياسة أخْذه بالضربة القاضية. وهكذا، ومنذ تفجير 2005 وحتى تاريخه، باتت الساحة اللبنانية حلبة ملاكمة يتواجه على خشباتها، وبشكل أساسي، أبطال السعْي إلى امتلاك قرارات الحكم التنفيذية.

سيرة سعد الحريري في الحكم، لم تكن خارج إطار لعبة الملاكمة، وهذه ليست فنْاً نبيلًا، عندما يتعلق الأمر بالسياسة، بل هي فنْ الممنوعات والمحرّمات والخروج على كل ما هو متعارف عليه من أصول اللعبة النبيلة.

حصيلة المواجهة مع سعد الحريري، أخرجته من الحكم مراراً. حصل ذلك وهو في السراي، وتكرّر الأمر عندما حِيْلَ بينه وبين العودة إليها.

في الخلاصة، إذا ما أعيد جمع كلمات السيرة التعطيلية لاندفاعة الحريرية، برمزيها، ستكون جملة الإيجاز: إنها عملية صدّ "تقدّم" السنيّة داخلياً، من ضمن سياق التصدي لنفوذها في عموم المنطقة العربية.

صراع على الجمهورية
من المعلوم أن كل صراع على التوازنات والأحجام والحصص، بين الطوائف والمذاهب، هو في الوقت عينه صراع على الجمهورية اللبنانية. هذه هي الخلاصة السياسية التي تكمن في صلْب التوافقية التي أنتجت الاستقلال اللبناني.

لقد عرف اللبنانيون محطات عديدة، تكرّر فيها سؤال: أيّ لبنان نريد؟ السؤال السالف رفعته المارونية السياسية كلما استشعرت تهديداً للمطابقة التي أقامتها بين مصالحها ووجود الكيان اللبناني، وهي تعيد طرح السؤال اليوم من مدخل صلاحيات رئيسها، الذي يريد، ومن دون إعلان، استعادة ما أخذ اتفاق الطائف من امتيازات الطائفة الممتازة.

تذكير عابر، لكنّه ذو مغزى: لقد فقدت المارونية السياسية ما تعتبره امتيازاً لها، بعد خسارات رهاناتها في مواجهة الإسلام السياسي كلّه، والمفارقة، أن طرفاً من المارونية هذه، يحاول اليوم، وبالتحالف مع طرف من الإسلام السياسي، استعادة ما ليس ملكاً حصريّا لهذا الطرف.

هذه المقاربة، تفضي إلى إعطاء عنوان آخر للمعركة الدائرة منذ 2005 وحتى اليوم، بصفتها معركة كسْر التوازن الداخلي، وهزُ استقراره، من خلال كسّر وهزّ موقع ركْن مكين من أركانه الكيانية التأسيسية.

والحال، فإن الإصرار على الغلبة والتأسيس لديمومتها، هو منحى لوضع اليد على إسم الجمهورية اللبنانية، وعلى التصرّف بما يبقى من معنى ومضمون هذه الجمهورية.

إنّ تقديم الصراع الدائر في قالب دستوري، حسب هذه المادة أو تلك، هو سلوك تمويهي وتضليلي. فالدستور أول حرف فيه استقرار لبنان وصون حياة اللبنانيين، وآخر حرف فيه حفظ الوطن وأمان المواطنين، وهذا ممّا يُسقَطُ يومياً، من حسابات الساعين إلى الغَلَبَة، الذين يهدّدون الاستقرار والعيش والكيان، والذين دفعوا اللبنانيين إلى ذلّ الطلب، وإلى عسْر تأمين حاجاتهم الضرورية. بكلمات، لا دستور يعمل به، ولا حرص من مدّعي حماية الدستور، على نصّ وجوهر ومقاصد الدستور.

على وجوه عديدة، يقف اللبنانيون اليوم أمام معركة حقيقية، هي معركة الصراع على الجمهورية. في هذا السياق، على أصحاب الشعارات التغييرية التدقيق في شعاراتهم، والتدقيق في أولويات برامجهم، وعليهم التقاط عنوان الصراع الرئيسي الذي ستقرر نتيجته حقيقة الجمهورية. هذا يتجاوز الشعارية الشعبوية، ويفرض على من يتحسّس مسؤولية المواطنة، أن يبادر إلى تسمية الأشياء بأسمائها، فمن ضمن "كلهّم يعني كلّهم" هناك بعض من الكلّ، ما زال يقرأ في كتاب الجمهورية، وهناك بعض من الكلّ المسؤول، يثابر على تأليف كتاب آخر للجمهورية.. كتاب، يبدو من السياق، أنه ذو خاتمة حزينة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها