فجريصاتي مارس "مونته" المعتادة على القضاء، ما حمل قاضية أمور مستعجلة على إصدر قرار يمنع انتخابات جمعية تجار زحلة، بناء على اعتراض مقدم إليها. لكنها تراجعت عن قرارها بعد يوم واحد، وسمحت بإجرائها بقدرة قادر.
ولكن القصة ليست في جمعية تجار زحلة. فهذه هيئة محدودة الفاعلية في المدينة، واقتصر نشاطها منذ سنوات طويلة على نصبها زينة عيدي الميلاد ورأس السنة، وغابت هذه الزينة في السنوات الماضية. فالقضية الأساسية هي ما يريده سليم جريصاتي من زحلة. فالرجل يحاول إظهار نفسه مرجعية في المدينة، رغم كل ما يخلفه من نفور سياسي، يتخطى شخصه إلى دوره في القصر الرئاسي. والنفور هذا ينسحب حتى على "عونيين" يرى كثيرون منهم في مستشار الرئيس أصل بلاء العهد وفشله المدوي.
مزهرية أحزاب السلطة
ويستعرض سليم جريصاتي قوته "المستعارة" في المدينة على أبواب انتخابات نيابية وبلدية، موطداً علاقته برأس الكنيسة الكاثوليكية في زحلة. هذا التقارب يخلف توجساً لدى باقي فاعليات الرعية الكاثوليكية، تاركاً انطباعاً بأن المدينة عادت لتحكم بالأسلوب "الفوقي" المعتمد في مرحلة احتلال النظام السوري لبنان. فآنذاك كانت القرارات و"المؤامرات" تطبخ في الدوائر الاستخباراتية، وتظهّر من الصروح المحلية، في محاولة لإيهام الناس بأنها صنعت في زحلة.
وسليم جريصاتي ما كان ليجرؤ على خطواته هذه لولا "فراغ سياسي" لا يبدو أن أياً من أحزاب السلطة نجح بردمه حتى الآن. وهذا الفراغ ناجم عن طبيعة تركيبة المدينة التي تشبه إلى حد بعيد تركيبة المجلس الأعلى للكاثوليك، الذي تجتمع في "مزهريته" -كما سماها يوماً الوزير السابق نقولا فتوش- كل أقطاب السياسة اللبنانية: من القوات إلى العونيين والكتائبيين والعائلات السياسية، ولا ينتخب نوابها إلا باكتمال عقد المدينة مع باقي أحزاب السلطة المهيمنة على مناطق قضاء زحلة، أي تيار المستقبل، وحزب الله، وحركة أمل.
الصمت وضجيج المتسلقين
وكان يفترض بهذا التنوع في زحلة أن يكون مصدر غنى فيها. لكنه كما المجلس الأعلى للكاثوليك، تحوّل إلى سبب لتعطيل الحياة السياسية في المدينة، خوفا من أن تترجم الأحزاب خلافاتها صدامات أمنية في المدينة. وهكذا صار "صمت زحلة" سبباً لملئه بضجيج "المتسلقين" على أبوابها.
ويتحمل المسؤولية في ذلك الزحليون أولاً، بسبب صمتهم، وشخصيات زحلية ثانياً. فأي من هذه الشخصيات لم ترسخ وجودها كمرجعية محلية في المدينة، رغم الفرص التي أتيحت لها. وهذا عطل دور زحلة في الحياة السياسية اللبنانية، وجعلها بلا صوت على طاولات الأحزاب التي تشتت قرارها.
بيوت السياسة المقفلة
وهذا الواقع يترجم جلياً في "عاصمة الكثلكة" ببيوت سياسية "أقفلت"، حتى لو تمسك ورثتها برفض الواقع. بعدما كان رضى أصحاب هذه البيوت، ولو الشكلي، ضرورياً حتى في عز الوجود السوري بلبنان. وكان ذاك الاحتلال يستمد غطاءه من تحت سقفها.
إنهارت هذه البيوت السياسية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونتيجة لما فرضته أحزاب السلطة من نظام مركزي في توسيع رقعة نفوذها على الأراضي اللبنانية. وهذا ما عزز ثقة الأحزاب بنفسها في هذه المناطق، لتتجرأ حتى على تسمية شخصيات كاثوليكية من خارج مدينة زحلة، خاضت بها انتخاباتها، من دون أن تبذل هذه الشخصيات جهدا كافياً لاستعادة قرار زحلة السياسي وتوحيده على المستوى اللامركزي.
الفساد والذمية
والإحباط الذي يرافق الزحليين كسائر اللبنانيين، من الطبقة السياسية التي تمثلها أحزاب السلطة مجتمعة، لم يدفع حتى الآن لتظهير شخصيات زحلية قادرة على استعادة صوت المدينة. مع أن الفرصة متاحة اليوم، في ظل التوق إلى الانتهاء من مخلفات عهود الفشل التي عاشها اللبنانيون.
أما "الصمت" فلا يبدو أنه ما زال مجدياً في استراتيجية المواجهة التي اعتادها الزحليون. فخلو الساحة يشرعها للسلطة وأدواتها، بما تمثله من فساد وقدرة على التغلغل عبر الفساد في المؤسسات، وإغراقها في الذمية.
المدينة الخاضعة
وما تهنئة جريصاتي لجمعية التجار سوى وجه آخر من وجوه هذا الاخضاع في المدينة. وهو إخضاع لا تتحمل تبعاته الجمعية وحدها، والمنتخبة بشبه تزكية، بل كل الذين صمتوا على ما أحاط هذه الانتخابات من ارتكابات، خوفاً ربما، أو نتيجة عدم رغبة في مواجهة مع من يعتقد أنه يستخدم سلطته ضد الناس ويلحق الأذية بهم.
فهم لم يفضحوا ازدواجية القضاء في اتخاذه القرارات ونقيضها، ولا واجهوا "المخالفات" بالطعون. بل أكثرهم امتنعوا عن تظهير هذه الارتكابات للرأي العام، وأخفوها عنه، مكتفين بوشوشات حول طاولات المقاهي. وهذه المقاهي تضج يومياً بأخبار عن صفقات السلطة وأتباعها، ولكنها لا تنتج ولو مواجهة واحدة معها، أقله في محاولة لتحطيم ثقة هذه السلطة بقدرتها على إخضاع زحلة، وإبقاء صوتها مسموعاً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها