الثلاثاء 2021/07/13

آخر تحديث: 15:26 (بيروت)

الجنبلاطية: مسيرة تقطعها التقلبات العاصفة

الثلاثاء 2021/07/13
الجنبلاطية: مسيرة تقطعها التقلبات العاصفة
حساسية استقلالية أقل، وغريزة شعبية أضعف (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

آلت مقاليد السياسة اللبنانية إلى أيادي تجمعات سياسية طائفية، مستحدثة، يعوزها العلم بتاريخ الأوضاع اللبنانية، وتنقصها المعرفة والخبرة، بمسارات تشكيلاتها الأهلية. مع هذه الفئات الحديثة الولادة والتجربة، يطّلع اللبنانيون، يومياً، على صنوف من الكلام، وضروب من المصطلحات، تكشف جهل أصحابها، وضيق رقعتهم السياسية، التي باتت مقاييسها الجغرافية، لا تتسع لأكثر من صنف طائفي لبناني واحد.. لغة، وخطاباً، وتطلّب مصالح.. هذا الواقع الذي يسير عكس ضرورات فهم "الوضعية اللبنانية"، بأمل تطويرها، يلح على الذهن بضرورة بذل الجهد، في مقام الفهم الممكن، طالما أن التغيير المنشود، في البنية الوطنية، ما زال بعيد المنال.

الجنبلاطية المؤسِّسة
ضمن اللوحة الواقعية، المقصودة بالمعاينة، تحتل "الجنبلاطية الجديدة"، موقعاً مهماً، تكتسبه من أمرين: الدور المحوري الذي لعبته "الدرزية السياسية" في تأسيس الكيان اللبناني "الأصلي"، والأداء السياسي الهام الذي اضطلعت به "الجنبلاطية" على امتداد "عمر الكيان".. بالاستناد إلى تاريخية الطائفة، وإلى تاريخ العائلة في الوقت ذاته. تحرك الوضع اللبناني، وفي طياته تحركت الوضعية السياسية الدرزية، وماجت القوى الطائفية، وكان "للجنبلاطية" تموج قواها، الخاص. لقد أفضت التموجات اللبنانية العامة تلك، إلى إعادة رسم خرائط جديدة، لمسالك القوى الأهلية، وحددت لها بكثير من الدقة، مساحات تحركاتها الخاصة، وأشارت بدقة أيضاً، إلى المناطق "المحرمة" التي يحظر، على كل فريق أهلي، تجاوزها.. أصابت هذه التحديدات، الصارمة، الجنبلاطية، الموروثة والحديثة، إصابة بنيوية، ونالت من مضمون معناها السياسي الأصلي، الذي كان لها، على يد "الزعيم الوطني" كمال جنبلاط.. مثلما قلصت، بشكل بالغ، المدى "العابر" الذي جال في آفاقه "الزعيم الوطني" الآخر.. وليد جنبلاط. على سبيل الاستعادة، ولضرورات التذكير، شكلت الجنبلاطية، مع كمال جنبلاط، محصلة سياسية وطنية عامة، كان لها خطابها السياسي، وتحالفاتها الشعبية، وائتلافاتها الحزبية، وصيغها الجبهوية.. مثلما كان لها، مع كل هؤلاء، برامج الحد الأدنى وآمال الحد الأقصى، في السياسة والاقتصاد والثقافة.. والاجتماع أيضاً. لقد انطبعت جنبلاطية تلك الحقبة، بطابع شخص مؤسسها، الذي يشهد له أنه "كان متعدد الأبعاد"، مثلما ينسب إليه، الأداء السياسي الرفيع.. الذي كان، بالمناسبة، سمة لازمت عدداً من "الشخصيات" اللبنانية، التي عاصرت كمال جنبلاط وعرفته، من موقع الخصومة الحزبية، أو من موقع الانسجام السياسي.. بخلاف الانحطاط الذي صارت إليه التحالفات والمناكفات، في هذه الأيام!

شخصية المؤسس، لم تكن العامل الوحيد في هيكلية الجنبلاطية، بل إن "الحراك المجتمعي" الذي هزَّ البنية اللبنانية، طيلة عقود ما بعد الاستقلال في العام 1943، كان العامل الآخر، الأساسي، الذي ساهم في البناء، وإعادة البناء، المستمرين والقلقين، لجنبلاطية كمال جنبلاط.. هذا الإيجاز يعيد الاعتبار إلى أمر خلافي، حول موقع الجنبلاطية هذه، من الحركة الشعبية، وينحاز إلى القول أن نسخة كمال جنبلاط الأخيرة، كانت ابنة شرعية وطبيعية "للحركة الشعبية" التي قادها، لاحقاً، فكان واحداً من بناتها، مثلما كان، في الوقت ذاته، تجلياً من تجلياتها وإرهاصاتها، بهذا المعنى، لم تخترع "الحركة الشعبية" كمال جنبلاط من عدم "الطائفية السياسية اللبنانية"، مثلما لم يبتكر "قائد الحركة" حركته، من هيولى الأفكار، ولم يستحضرها من عالم "الماورائيات". كان ثمة استجابة مشتركة، وفهم متبادل، وحسن "توزيع مهام" بين مكونات كلا المعطيين، الجنبلاطي والشعبي، اللذين وعدا، حقاً، وربما للمرة الأولى في مسيرة الكيانية اللبنانية، بإمكانية تجاوز هذه الكيانية لمعضلات تكونها ونشأتها وصيرورتها ومساراتها الطائفية على كل صعيد. صحيح، أن موقع مصالح "الجبل الدرزي"، كان مقرراً لدى "الجنبلاطية الأسبق"، لكن حصانات "الموقع"، لم تكن طائفية صرفة، والنظرة إليه، احتفظت بألوان الأطياف اللبنانية، وكان الحرص كبيراً على عدم تظهير "اللون الواحد" بما يعزله، أو يجعله ميدان رمي لباقي "الألوان". العكس كان هو المعمول به، أي السعي الدائم إلى تمويه مقاصد اللون الخاص، والعمل على تحقيق انسجامه مع مكونات "قوس قزح" اللبناني الطائفي، على أمل عقلنة وعصرنة "بشائر أمطاره الموسمية"! على هذه الخلفية، كان من الواجب، وما زال، ملاحظة، الحساسية الجنبلاطية "الأولى"، حيال مبدأ الاستقلالية اللبنانية، والانفتاح، والتعددية، والديموقراطية، والثقافة، التي تتجاوز السرديات المحلية. كان كل ذلك، حقيقياً، لدى كمال جنبلاط، لذلك دفع ضريبة تعدده الشخصي مرتين: الأولى لحساب التشكيلة المحلية التي أحرجته فأخرجته على مقومات توازناتها. والثانية لحساب التشكيلة الإقليمية التي حاسبته على نسخته العروبية الاستقلالية، بنكهتها الخاصة اللبنانية.

الجنبلاطية الوارثة
لكن أين تقع جنبلاطية وليد جنبلاط اليوم، من تلك التي كانت لأبيه؟ ثمة معطيان أساسيان، لعبا دوراً مفصلياً في صعود "الجنبلاطية" الجديدة، مثلما لعبا في وقت لاحق، دوراً مقرراً في مراوحتها، ومن ثم، في تراجعها الإجمالي، الذي نشهد بعضاً من ثماره السياسية، في الأزمة اللبنانية العامة الراهنة. لقد فقدت "الجنبلاطية" حليفها الشعبي، بعد الحرب الأهلية، وما تناسل منها، مثلما عاشت وأسهمت، على طريقة الجنبلاطية "الجديدة" في تهاوي "إنجازات" البنية اللبنانية، التي أمكن للمسار اللبناني الداخلي، أن ينتزعها قبيل عشية 13 نيسان 1975. لقد استجاب وليد جنبلاط "للخسارتين" الموضوعيتين الآنفتين، على طريقته، فاستعاض عنهما بربح موضعي في بيئته "الدرزية الخاصة"، وبكسب موضعي آخر، في المدار الإقليمي. في المطرحين ذهب وليد جنبلاط إلى الحد الأقصى، فكان "درزياً" بلا حساب، عندما تماهت المصالح مع الهوية الخاصة، وعندما صارت "الزعامة" معقودة للصوت الأعلى والأكثر توتراً، تعبيراً عن هذه الهوية. وكان عروبياً، بلا تدقيق، لأن السياج الأفعل والآمن، لحقل المصالح في الداخل، يؤتى به جاهزاً من مصانع الخارج العربي. على المعطيين هذين، نهضت سمتان لازمتا الأداء الجنبلاطي "الحديث"، فكانت لوليد جنبلاط، حساسية استقلالية أقل، وغريزة شعبية أضعف. هاتان السمتان، اللتان شكلتا عاملي قوة وتماسك في خطاب "كمال الأب"، صارتا مصدرين للضعف في قول وفعل وليد الإبن". أما محاولات الاستدراك التي كانت تطل بين محطة سياسية وأخرى، فلم تتجاوز المناورة العابرة، التي كانت تريد تحقيق مكاسب سياسية طارئة، لا يلبث المتنابذون بعدها، أن يستعيدوا صفاء محاصصاتهم الطائفية.

جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ليصيب ركائز الجنبلاطية الحالية، في مدارها الداخلي وفي عمقها الإقليمي. ومع هذه الإصابة البالغة، كانت آفاق الاستدراك "الاستراتيجي" مسدودة، فالتفاهمات الطائفية السابقة اهتزت، واتخاذ وضعية الاستقلالية، بمعناها "الصيغوي" اللبناني، ترتسم حوله، في المقام الجنبلاطي، أكثر من علامة استفهام. فاقم من مصداقية الطرح الاستقلالي، إسقاط الجانب التسووي الداخلي منه، عندما جرى التصعيد الشديد في وجه الطائفيات السياسية الأخرى (الشيعية السياسية خصوصاً)، وعندما ألقي "البيض كله في سلة" الخارج الغربي (أميركا تحديداً). ثمرة هذين المسلكين، كانت إقفالاً على احتمال التوصل القريب، إلى صيغة توافقية سريعة، تخرج لبنان من دائرة الأخطار الفادحة، التي كانت ماثلة للعيان، بعد غياب رفيق الحريري. الأرجح، أن ما قاد الجنبلاطية، يومها، وحتى الأمس القريب، كان مزيجاً من الشعور بالقدرة على انتزاع الغلبة الداخلية (على رافعة الجريمة المدوية)، وعلى الفوز بحصة أثقل من "ميزان المدفوعات" اللبناني! عند هذه اللحظة، فقدت الجنبلاطية الوارثة، ميزة صياغة المحصلة العامة، التي كانت للجنبلاطية السالفة. أي أضاعت فرصة التقدم في مضمار استنبات تسوية داخلية متوازنة أخرى، يحضر فيها الداخلي بالضرورة ولا يغيب عنها الخارج، خاصة العربي بالتأكيد. رب قائل، أن التصعيد الطوائفي، جاء من كل الجهات، ولم يكن حكراً على "صوت" وليد جنبلاط وحده. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً، والذي يجب ألا يغيب عن البال، هو أن لكل طائفية سياسية شيء من الاستقرار، وبعض من اليقين، بخلاف الدرزية السياسية، التي تقيم في قلقها الدائم، المبني على حقائق جغرافية وديمغرافية، لها ترجماتها في الوضعية اللبنانية الفائقة الحساسية. لذلك يفترض بالجنبلاطية أن يكون هدؤها أعمق، وهتافها أقل دوياً!

على مفرق اليوميات
نعيش اليوم تهدئة جنبلاطية. هذا من مستلزمات استشعار خطورة ما آلت إليه اليوميات اللبنانية، وما يلوح من تحديات يمكن وصفها بالمصيرية. لكن هل يمكن الرهان على مبادرة جنبلاطية هادئة، تؤسس من جديد، لأن تكون همزة وصل بين الطائفيات الكبرى المتنازعة؟!
تتحكم بالإجابة عدة مسائل هامة منها: قدرة جنبلاطية وليد جنبلاط على "تجديد" دور المحصلة الذي كان لها، بعد كل ما أصابها من عثرات، وإمكان قبول ومساعدة البيئة المحلية للجهد الجنبلاطي، إذا ما تجدد، وحظ النجاح الممكن للجنبلاطية، في الوصل بين محصلة الداخل ومنظومة مصالح الخارج، العربي منه والدولي. فتكون الجنبلاطية، مجدداً، "رأس حربة" تسووية، بالقدر الذي يستطيع اللبنانيون احتماله من تعريف وصياغة للتسوية!

لكن، ومما يجدر أخذه في الاعتبار، أن الوقائع لا تقدم عناصر مساعدة لتأسيس جنبلاطيةٍ ثالثة، بعد استنفاد الجنبلاطيتين الكمالية والوليدية. إن حالة الاستقرار المطلوبة لصياغة الخيارات المتوازنة مفقودة الآن، ولا يبدو أن جنبلاطية تيمور جنبلاط مرشحةً للانخراط في سيرة استنهاضٍ طويل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها