الخميس 2021/07/01

آخر تحديث: 15:15 (بيروت)

لبنان العربي "غربيٌ" أو لا يكون

الخميس 2021/07/01
لبنان العربي "غربيٌ" أو لا يكون
جرس عظيم سيتردد صداه في العالم الغربي كله (Getty)
increase حجم الخط decrease
لماذا هذا الحرص الفاتيكاني الذي يتكرر تجاه لبنان؟ أسوأ إجابة هي التي تفترض "حماية" المسيحيين. فهذا يعني وضعهم في مصير منفصل عن مواطنيهم، أو وضعهم في سياق "أقلية" مهددة من أكثرية. هكذا تفكير ينفي نهج الفاتيكان ذاته الذي كان واضحاً منذ السينودس من أجل لبنان (1993)، وهو أول سينودس في تاريخ الفاتيكان يُعقد من أجل دولة. ويجوز التذكير بفقرة أساسية فيه عن حضارة الشرق العربيّ: المسيحيّون والمسلمون سويًّا صنعوا حضارة الشرق العربيّ، فكانت هذه الحضارة تعبيرًا عن تلاقي ثقافاتهم. فكلّ جماعة مع ما تحمل من حضارة ساهمت بقدر معيّن في إكمال هذه الحضارة وفي تدعيمها. حاضرنا اليوم هو ثمرة هذا التكامل وهذا التدعيم". بمعنى آخر، لم ينظر الفاتيكان إلى مسيحيي لبنان والشرق إلا بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من هذا النسيج البالغ التنوع للكيان وللمنطقة، ومصيرهم واحد.

انطلاقاً من ذلك، يجوز القول أن التلاقي وصنع الحضارة، هنا في لبنان، حدث في الأصل بعد الإقرار الحاسم أن يكون لبنان غربي الوجهة وعربي الهوية. كان هذا مدماكاً لثقافة لبنان ولفلسفته السياسية ولنهجه الاقتصادي. بل كان "روح" المجتمع اللبناني سلوكاً وقيماً وأخلاقاً. وهو فوق هذا، كيان ينتمي إلى البحر المتوسط. هذا الحوض العظيم، قلب العالم القديم بكل حضاراته ولغاته وتاريخه.

هذا الإقرار هو الذي أتاح للبنان أن لا يكون مجرد دولة. أن يكون منذ البداية دوراً واقتراحاً. وكان ذلك نعمة ولعنة في آن معاً، إلا أنه ظل على الدوام "امتيازاً" يمنح اللبنانيين في حياتهم وطموحاتهم وعملهم وحضورهم، قيمة عيش تجربة حضارية يزدهرون بها بقدر ما يفيدون محيطهم والعالم.

ولا مرة، في أعنف لحظات الانقسام السياسي أو في أشد النزاعات الطائفية ضراوة، خرج اللبنانيون عن هذه الهوية الصعبة والمخاتلة. ظلوا باستمرار على افتخارهم بشرقيتهم وبصلتهم الأكيدة بالغرب وقيمه. بل إن أشد المتعصبين في عدائهم لـ"العروبة" إنما ساهموا بإعادة تعريفها في نهاية المطاف متخلصة من أسوأ ما فيها: البعث وأشباهه، الديكتاتورية، العنصرية العرقية.. فأعادوها إلى أصول العروبة التي نادى بها "النهضويون" (المسيحيون بأغلبيتهم). وأيضاً، فإن أشد المعادين للغرب ظلوا يميزون تماماً بين الغرب السياسي والغرب الحضاري، وبانحياز دائم لهذا الأخير، ولم يقعوا في وهم الأصولية الماضوية.

لبنان من دون غربيته بلد كسيح وأعمى. ولبنان بلا عروبته بلا قلب ولا رئة. ولا مبالغة في القول إن لبنان اليوم مهدد في خسارة وجهته الغربية وهويته العربية. تاريخياً، كانت إسرائيل تسعى إلى تهفيت النموذج اللبناني بوصفه نقيض الاقتراح الصهيوني. وتاريخياً، كانت الديكتاتورية السورية خصوصاً تسعى إلى تخريب التجربة اللبنانية لكونها مضادة للاستبداد والطغيان. وتعرض لبنان بسبب ذلك إلى جولات مديدة من الاضطراب والحروب والمآسي.. ومع ذلك، لا إسرائيل نجحت ولا الأسدية طغت.

المستجد الخطير ليس "التوجه شرقاً" لاستيراد بنزين أو دواء.. بل استيراد هوية وسياسة وثقافة مغايرة. أو بالأحرى، اقتلاع لبنان من مكانه ورميه هناك إلى جغرافيا متوهمة جديدة قد تكون بالقرب من أفغانستان مثلاً.. هذا المشروع الذي دمّر المشرق العربي هو اليوم يخطف لبنان بعيداً عن محيطه العربي وبحره المتوسط وأفقه الغربي.

والمستجد الأخطر أن مسيحيين لبنانيين، ولهم سطوتهم السياسية لا يمانعون - من أجل صون نفوذهم وامتيازاتهم - في التبشير بهذه الوجهة الجديدة. والأنكى أنهم يجدون جمهوراً عريضاً يسير وراءهم.

دعوة الفاتيكان اليوم إلى "الصلاة لأجل لبنان" (لا فقط لأجل مسيحيي لبنان)، وبعيداً عن الطقس الديني الوقور، هي قرع جرس عظيم سيتردد صداه في العالم الغربي كله، لبدء العمل الجدي منعاً لاقتلاع لبنان من أرضه ومحيطه ومن ذاته.

والملحّ اليوم، أيضاً، أن تستلهم المنظومة العربية بادرة الفاتيكان وتلاقيها من غير تردد قبل فوات الأوان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها