هذا الإقرار هو الذي أتاح للبنان أن لا يكون مجرد دولة. أن يكون منذ البداية دوراً واقتراحاً. وكان ذلك نعمة ولعنة في آن معاً، إلا أنه ظل على الدوام "امتيازاً" يمنح اللبنانيين في حياتهم وطموحاتهم وعملهم وحضورهم، قيمة عيش تجربة حضارية يزدهرون بها بقدر ما يفيدون محيطهم والعالم.
ولا مرة، في أعنف لحظات الانقسام السياسي أو في أشد النزاعات الطائفية ضراوة، خرج اللبنانيون عن هذه الهوية الصعبة والمخاتلة. ظلوا باستمرار على افتخارهم بشرقيتهم وبصلتهم الأكيدة بالغرب وقيمه. بل إن أشد المتعصبين في عدائهم لـ"العروبة" إنما ساهموا بإعادة تعريفها في نهاية المطاف متخلصة من أسوأ ما فيها: البعث وأشباهه، الديكتاتورية، العنصرية العرقية.. فأعادوها إلى أصول العروبة التي نادى بها "النهضويون" (المسيحيون بأغلبيتهم). وأيضاً، فإن أشد المعادين للغرب ظلوا يميزون تماماً بين الغرب السياسي والغرب الحضاري، وبانحياز دائم لهذا الأخير، ولم يقعوا في وهم الأصولية الماضوية.
لبنان من دون غربيته بلد كسيح وأعمى. ولبنان بلا عروبته بلا قلب ولا رئة. ولا مبالغة في القول إن لبنان اليوم مهدد في خسارة وجهته الغربية وهويته العربية. تاريخياً، كانت إسرائيل تسعى إلى تهفيت النموذج اللبناني بوصفه نقيض الاقتراح الصهيوني. وتاريخياً، كانت الديكتاتورية السورية خصوصاً تسعى إلى تخريب التجربة اللبنانية لكونها مضادة للاستبداد والطغيان. وتعرض لبنان بسبب ذلك إلى جولات مديدة من الاضطراب والحروب والمآسي.. ومع ذلك، لا إسرائيل نجحت ولا الأسدية طغت.
المستجد الخطير ليس "التوجه شرقاً" لاستيراد بنزين أو دواء.. بل استيراد هوية وسياسة وثقافة مغايرة. أو بالأحرى، اقتلاع لبنان من مكانه ورميه هناك إلى جغرافيا متوهمة جديدة قد تكون بالقرب من أفغانستان مثلاً.. هذا المشروع الذي دمّر المشرق العربي هو اليوم يخطف لبنان بعيداً عن محيطه العربي وبحره المتوسط وأفقه الغربي.
والمستجد الأخطر أن مسيحيين لبنانيين، ولهم سطوتهم السياسية لا يمانعون - من أجل صون نفوذهم وامتيازاتهم - في التبشير بهذه الوجهة الجديدة. والأنكى أنهم يجدون جمهوراً عريضاً يسير وراءهم.
دعوة الفاتيكان اليوم إلى "الصلاة لأجل لبنان" (لا فقط لأجل مسيحيي لبنان)، وبعيداً عن الطقس الديني الوقور، هي قرع جرس عظيم سيتردد صداه في العالم الغربي كله، لبدء العمل الجدي منعاً لاقتلاع لبنان من أرضه ومحيطه ومن ذاته.
والملحّ اليوم، أيضاً، أن تستلهم المنظومة العربية بادرة الفاتيكان وتلاقيها من غير تردد قبل فوات الأوان.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها