الخميس 2021/05/27

آخر تحديث: 16:34 (بيروت)

سحر الممانعة الخفي

الخميس 2021/05/27
سحر الممانعة الخفي
تشكل "سوريا الأسد" المثال التام لوعود الممانعة (Getty)
increase حجم الخط decrease

أن يعدك أحدهم بحتمية تحرير فلسطين، وبأن تحرير القدس بات قريباً.. أكثر إغراء بكثير من أن يقول آخر أن "المسألة بالغة التعقيد" أو "هذا ليس بالمتناول". فغالباً تميل الطبيعة البشرية إلى من يمنح الوعد والأمل، وإلى من يبيعهم مستقبلاً ملائماً لهم.

هذا بالضبط سحر الممانعة الخفي.

أكثر من ذلك، اختزال العالم إلى مانوية الشر والخير، الأسود والأبيض، الحق والباطل.. يتناسب تماماً مع رغبتنا في تبسيط العالم وفهمه. ويتناسب أكثر مع راحة الضمير.
بهذا المعنى، اللغة المفعمة بكلمات الانتصار والتحرير والكرامة والمقاومة أقرب فهماً وتقبلاً من كلمات مائعة أو غامضة: تسوية، مفاوضات، حل عادل.. وأيضاً، فإن لغة فائضة بالعزة والغلبة والشرف، ومنطوقة بحرارة وحماسة، تشعل الأفئدة والمخيلة أكثر بكثير من كلمات "الديموقراطية" أو "التسامح" أو "المساواة" "السلام" أو "الليبرالية"، التي غالباً ما تقال ببرودة أو تلعثم، فيزداد غموض معانيها والتباساتها.

ثم أن سحر الممانعة الأصلي هو الدعوة إلى صناعة التاريخ، تغيير العالم، الهزيمة النهائية للعدو. ما يقابل الممانعة ويعاكسها، يدعو إلى التطبيع مع حقائق العالم وإلى الخروج من التاريخ وإلى انتفاء العداوة، وإلى تدبير الوضع البشري بتفكير نسبي ومركّب.. وبين الدعوتين، ينحاز إلى الأولى ملايين المهمشين والبسطاء والمؤمنين والمظلومين والمحرومين، خصوصاً الذين تشكل وعيهم على ماضٍ متخم باللاعدالة، وعلى حاضر فقير وضعيف الصلة بمكتسبات الحياة المعاصرة وقيمها المعولمة. هؤلاء يشعرون بمهانة قديمة ومستمرة، وثمة من يعدهم بالثأر وبمنحهم وعداً إلهياً بوراثة الأرض.

أبعد من ذلك، تتصل الممانعة بثقافة وتراث متجذرين وموغلين في التاريخ: الحرب بين الإيمان والكفر، العداء بين الشرق والغرب، الأصالة ضد الحداثة، ذاكرة الاستعمار.. وهذا الاتصال اللصيق أُعيد إنتاجه بأيديولوجيا دينية ووضعية، شمولية ومتماسكة، تتيح لها أن تكون "معاصرة".

على نحو ملموس، يمكن مثلاً أن نجد يافطة في إحدى ضواحي بيروت تطلب الإكثار من الدعاء كي تزول أيام الشدة والأزمة. إنها تواسي الناس الذين سيستجيبون لها ويجدون فيها ما يتناسب تماماً مع مداركهم وفهمهم للقدر وما يعينهم على التأقلم مع الحال السيئة. هذا حتماً ما لا تستطيعه مطالعة اقتصادية مفصلة وعلمية ومعقدة ومتشائمة، عديمة التعاطف.

سهولة أن يكون للممانعة جمهور واسع وعريض لا تُجارى. فحتى الموت هنا يقابله فردوس أبدي. والهزيمة نفسها تغدو انتصاراً على نحو ما، أو هي تمهيد لانتصار نهائي مقبل لا محالة.

وإلى أن يأتي ذاك اليوم الموعود، لا شكوى من أن تمضي الأيام والسنوات والعقود والأعمار جيلاً بعد جيل في حرب تلد أخرى، في خراب يتكدس فوق خراب، في ضياع العمر بؤساً أو موتاً أو فقراً أو تأخراً.. ولا بأس أن يكون العالم في الأثناء قد صار في مكان آخر، مبتعداً أكثر فأكثر عما نحن فيه.

لكن الممانعة ليست دعوة عدمية ويائسة كما حال "داعش". إنها تتنكب مهمة تقديم نموذج دولة وهندسة مجتمع وتدعي بكل ثقة أنها ستقبض على المستقبل الموعود.

المعضلة تكمن هنا، متى يتحقق ذاك المستقبل؟ وبأي ثمن؟ وعلى أي وجه ستمضي الحياة (حياة عشرات الملايين) في الأثناء؟

تقدم سوريا مثالاً جيداً في الإجابة على هذه التساؤلات: قامت عصبة عسكرية ممانعة قبل 60 عاماً بالاستحواذ على السلطة، باسم تحرير فلسطين، توحيد الأمة، تحقيق الاشتراكية ومقارعة الاستعمار. وكان شرطها تعليق السياسة في البلاد، الحريات الشخصية والعامة، الصمت وعدم الاعتراض، تأميم مقدرات الدولة والأفراد ومصادر الثروة، مبايعة السلطة-العصبة إلى الأبد.. مقابل وعد التحرير والتوحيد والجنة الاشتراكية (أن يرث الفقراء الأرض) وانكسار الاستعمار والامبريالية. ومن يطلق الوعد هو الحق. ولا يسمو فوق الحق أي شيء.
سحر الممانعة كذلك، أنها جعلت نفسها و"الحق" صنوين لا ينفصمان. بداهة تامة.

وفي هذه الستين عاماً، والحق يقال، بقي النظام مخلصاً للممانعة. وبقي على وعده كما هو. وعلى امتداد العقود ورغم كل شيء "صمد". كان صموده وبقاؤه يتحول إلى عقيدة، مفادها أن لا تحرير ولا توحيد ولا أمل ولا مستقبل ولا صواب ولا وجود لأمة أو دولة أو وطن إلا ببقاء النظام. بل ببقاء شخص الرئيس ثم وريثه. أي اقتراح آخر أي سؤال أي شكوى أو تشكيك هو الخيانة نفسها. أضحى الأسد مثلاً هو التجسيد الحيّ لكل تلك الوعود التاريخية، على نحو شبه إلهي ومقدس.

لكن، منذ العام 2011 ارتكب الخيانة نحو ثلثي سكان سوريا (بأقل تقدير 15 مليون نسمة). هؤلاء بدوا هكذا، في لحظة عدم وفائهم وطاعتهم لـ"السيد الرئيس"، وقد تخلوا عن تحرير فلسطين وكفروا بالوحدة العربية ويئسوا من الاشتراكية، وانتقصوا من حكمة قائدهم الأبدي وصوابه، ووقعوا في براثن "مؤامرة كونية" غدرت بالرئيس وصحبه.

فالستون عاماً الماضية التي لم يتحقق فيها أي وعد، هي وفق زمن الممانعة مجرد "لحظة" في التاريخ، وليست بالضرورة أن تكون مدة كافية لتحقيق الوعود والأهداف. وعليه، لا يجوز فقدان الصبر أو اليأس. أما التخلف اقتصاداً أو انعدام الحريات أو كبت السياسة أو إعدام عشرات الآلاف باسم الوطنية، أو هيمنة الفساد، فهذا بعض من التضحيات الضرورية من أجل ذاك الانتصار المستقبلي الموعود.

"التضحيات" أيضاً واحدة من أسرار سحر الممانعة الخفي. أليس جديراً بالشعوب أن تضحي وأن تبذل المال والدماء، أن تقدم كل غالٍ ونفيس في سبيل القضية؟

واليوم، وإذ نرى ستين عاماً مقبلة تكرر تلك التي انقضت، لا يسعنا سوى أن ننذر بلادنا برمتها وحياتنا وأعمارنا ومالنا وأحفادنا.. تضحيةً وفداءً للممانعة وقادتها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها