الجمعة 2021/04/09

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

بين احتضار الطائفية واحتضار لبنان

بين احتضار الطائفية واحتضار لبنان
تحالف حزب الله وعون صفقة يصعب أن نجد فيها مصلحة وطنية (الأرشيف، المدن)
increase حجم الخط decrease

إن ما يجري اليوم في لبنان يذكرنا بما جرى ما بين سنة 1988 و1990؛ فمعروف أن عوناً كان سنة 1988 قائداً للجيش وفرض على أمين الجميل في نهاية ولايته تسميته رئيساً للوزراء، وإقالة حكومة الدكتور سليم الحص. وهذا الأمر أفضى إلى انشقاق البلد إلى دولتين، أو إلى نوع من الفيدرالية غير المعلنة. وكان الحص وعون نقيضين: الأول لا يعترف بالطائفية، والثاني أكبر صقورها في ذلك الحين. الأول أكاديمي اختاره الرئيس الياس سركيس لرئاسة الحكومة بعد أن خبره في مصرف لبنان وقدر فيه العلم والأخلاق، والثاني عسكري طائفي أبى أن تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس وزراء يرأسه مسلم، فتولى رئاسة الحكومة بما يشبه الاستيلاء. ومنذ ذلك الوقت مضى الصراع بين الضدين: النهج الطائفي المتشدد والنهج المعادي للطائفية، النهج الذي يبغي تكريس الهيمنة المارونية السياسية، والنهج الذي يسعى إلى الدولة الحديثة المجردة من الطائفية. ولم يلبث النهج الأول أن حاول السيطرة على الدولة كلها وطرْد السوريين من لبنان في ما سماه حرب التحرير وتوحيد البندقية، فأخطأ الحساب ودفع ثمن خطئه إجلاءه من قصر بعبدا الذي اغتصب فيه صلاحيات رئيس الجمهورية وحاول تأبيد ذلك؛ على حين أن النهج الثاني سعى إلى أعادة الوحدة إلى الوطن ووقف هدر الدماء، وانتهى به المطاف إلى إقرار اتفاق الطائف الذي كان من الطبيعي أن يرفضه عون بشدة.

هزيمة النهج الطائفي المتشدد
ولا شك في أن ذلك الاتفاق وإقرار معظم بنوده في الدستور اللبناني سنة 1990 كان في بعض جوانبه هزيمة للنهج الطائفي المتشدد الذي صاحَبَ هزيمة عون العسكرية، كما كان إعلاناً لاحتضار ذلك النهج؛ لأن البند (ح) من الدستور الجديد نص صراحة على أن إلغاء الطائفية السياسية "هدف وطني يُقتضى العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية". ونصت المادة (95) منه على الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لأجل إنجاز الإلغاء.

هذا لا يعني أن زوال الطائفية قد تأكد بعد إقرار الدستور، فهي كالفيروس يضعفه لقاح فيتحول فيروساً جديداً يضعف أثر اللقاح المستعمل فيه وتحتاج مقاومته إلى تطوير اللقاح نفسه أو اختراع لقاح جديد. فحقاً أن الساسة الطائفيين المتشددين قد أُهزلوا وتضاءل أثرهم آنذاك، لكن بقي لهم، ولاسيما لعون نفسه، أنصار كامنون. وحتى حزب الله الذي لم يشارك في مؤتمر الطائف، لم يبد مقتنعاً بما خرج به، مقدراً استحالة إلغاء الطائفية، متوقعاً حروباً سياسية بين الطوائف على الحصص، فضلاً عن عدم رضاه عما أصابه الشيعة منه، وهو يقتصر، في رأي الحزب، على إطالة ولاية رئيس المجلس النيابي وإطلاعه على نتائج المشاورات الإلزامية، ليس إلا. والحقيقة أن نظرة الحزب هذه غير دقيقة، لأن اتفاق الطائف لم يكن مكسباً لأي طائفة بعينها، بل أريد له أن يكون مكسباً وطنياً دستورياً ينقل السلطة من يد الفرد، وكانت مجتمعة في معظمها في يد رئيس الجمهورية، إلى المؤسسة، إذ يجعل السلطة التنفيذية وإمرة الجيش لمجلس الوزراء مجتمعاً، لا لرئيسه كما يدعي بعضهم خطأ أو تضليلاً. ويبدو أن عدم اقتناع الحزب بنتائج الطائف تطور إلى عدم الاقتناع بإلغاء الطائفية؛ فبعد أن كان أمناؤه العامون ميالين إلى الاعتدال ونبذ الطائفية، وجدنا السيد نصر الله يعلن استحالة إلغاء الطائفية، ولا غرو فهو قد تأثر بالميل الطائفي الإيراني.

اغتيال الحريري والثأر من السنّة
وبعد اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، انقلبت المعادلة. فعلى الرغم مما يأخذه معارضو الرئيس الحريري عليه فإنه كان من الناحية الطائفية شديد الاعتدال، حتى إن كثيراً من أبناء طائفته ساءتهم غلبة الموظفين من الطوائف الأخرى على مؤسساته، وكذلك الأمر في المنح الدراسية التي خص الطلاب بها، وكأن ذلك الاغتيال كان إيذاناً بتحريك الرماد وخروج جمر التطرف الطائفي من تحته؛ فقد سمح لعون بالعودة من فرنسا، وعادت معه مطامح المارونية السياسية المتطرفة إلى الظهور بشيء من الفجاجة، وبدا الرجل ساعياً إلى الثأر ممن هزموه، أو إلى البدء من حيث انتهى سنة 1989 قبل أن يبارح القصر، وهذا الأمر يوحي أنْ قد كان خلف الستار من كان يريد استمرار الحرب في لبنان بعد أن لجمها اتفاق الطائف. من هنا يحسن التمهل في النظر إلى أحكام المحكمة الدولية، وعدم ترك البحث عمن أو عما كان وراء اشتعال الحرب الأهلية، وعمن كان يريد استمرارها، ليس من اللبنانيين فحسب بل من الدول الأجنبية أيضاً، واحتمال أن يكون الاغتيال المشؤوم تمهيداً لعودتها في صورة أو في أخرى، مع أنه أفضى إلى خلاص لبنان من هيمنة النظام السوري وحمايته للفساد ومشاركته فيه.

وقد تجلت إرادة العودة إلى ما قبل الطائف، وإرادة التشفي ممن عرقل طموحات عون، في العمل علنا وبلا مواربة أو استحياء على إلغاء الدستور الجديد وعلى جعله كأنْ لم يكن، ولاسيما في ما يتصل بصلاحيات رئاسة الجمهورية التي أراد العونيون استردادها، موحين، على ما قدمنا، أن رئيس الوزراء قد انتزعها منه بغير حق. ولما كان منصب رئيس الوزراء من حصة السنة في النظام الطائفي، ذلك النظام الذي أراد الدستور الجديد أن يلغيه تدريجياً، وكان مَن نازعَ عوناً السلطة سنة 1989 ثم تولى رئاسة الوزراء في أول حكومة بعد اتفاق الطائف، وأُقرّ في عهده الدستور الجديد، وأُجلي عون من القصر الجمهوري كان سنيّاً، كما كان راعي اتفاق الطائف ومحركه سنياً، فقد انصبّ ثأر عون على السنّة ساسة وجمهوراً لا يفرق بينهم.

تفاهم عون وحزب الله  
ومعروف أن عوناً وتياره كانا معاديين للسوريين ولحزب الله بشراسة، لكن مصالح الطرفين تلاقت في مقايضة غريبة وغير متوقعة تقوم على أن يساعد الحزب عوناً في بلوغ رئاسة الجمهورية على أن يكون عون في المقابل سنداً للحزب في لبنان، ولاسيما في مواجهة من يطالبون بنزع سلاحه. أي تنازل عون عما لا يقل عن خمسة وسبعين بالمئة من مبادئه ومواقفه المعلنة والسرية، وتنازل الحزب عن كثير مبادئه أيضاً حيال من كان مؤيداً لجيش لحد عميل العدو الصهيوني. هي بكلمة صفقة يصعب أن نجد فيها مصلحة وطنية، بل خدمة لاستراتيجية الحزب الإقلمية، وطموحات عون السياسية والطائفية. لنقل إنها صفقة تخدم دولة أجنبية من ناحية، وتعمل على تقويض بناء نظام الحكم الذي رسم هندسته مؤتمر الطائف من ناحية أخرى. وما كاد لبنان يتحرر من الهيمنة السورية حتى وقع تحت هيمنة حلفاء النظام السوري. من تحت السَّقِيفة إلى تحت المزراب.

لقد شُغل الحزب بالحروب الإقليمية، ولم يكد يلتفت إلى الشعب اللبناني، وشغل عون في إلغاء الدستور ومحاربة السنّة واحتلال المناصب وحماية الأنصار، فزاد الفاسدون فساداً، أحياناً في غفلة عن طرفي الصفقة وأحيانا بغض الطرْف عن الفاسدين؛ وما هو حتى انطبق عليهما المثل العامي: من حضر السوق باع واشترى؛ فاستشرى الفساد، وبلغنا جهنم التي وعد بها رئيس الجمهورية اللبنانيين، وصدق وعده، لكن لم يُعزّ جنده، ولن يهزم الأحزاب وحده.

إنعاش الطائفية
لقد استطاع عون وتياره أن ينعشوا الطائفية بحُقن منشطة، لكنهم يكادون يقتلون لبنان. وواضح أنه كلما نشطت الطائفية تفاقم الفساد والخراب، لأنها تربة خصبة لهما، وكلما ضعفت تضاءلا. هذا لا يعني أن الفساد طارئ، بل هو علة سياسية إدارية قديمة في لبنان الذي بناه الاستعمار المسمى انتداباً بناء فاسداً منذ البداية لحاجة في نفس يعقوب، لكن الفساد لم يبلغ هذه الحال الفيروسية الشرسة إلا في هذا العهد. لبنان إذن يقع في مناقضة مصيرية: إما أن تعيش الطائفية وتنمو وإما يعيش هو، ولا يعيشان معاً أبداً. والتطور يقضي بموت الطائفية لأنها تكاد تندثر في العالم أجمع، وتوحي انها خارج التاريخ والطبيعة مهما زوّقوا صورتها ومدحوا فيها نظام التعايش الدال بطبيعته على الفئوية، ولا يكاد وباؤها يستقر إلا في لبنان. وهذا يعني غباء حاملي لوائها الساعين إلى تعديل الدستور أو إلغائه بالممارسة، لأنهم يعتقدون تأبيدها واستمرار هيمنها؛ والحق أن يوم إلغائها قادم لا ريب فيه ولا مُشاحّة، والدليل على ذلك ما نادى بها الثوار من كل الطوائف من رفض لها وللفساد معاً، تأكيداً لحقيقة تلازمهما، ولذلك بطش بهم النظام الطائفي الفاسد العفن وتضافَرَ عناصرُه على محاربتهم ومحاولة قتل الثورة واجتثاثها لتعود الفرق الطائفية إلى التباري في الملعب السياسي والدستوري، ولتوسع مساحة الملعب بأعراف طائفية غير دستورية، وبطغيان بعض أصحاب المناصب الطائفية على بعض. لكن المنطق يقول إن إلغاءها قادم لا محالة، ليصبح الانتماء السياسي إلى الوطن لا الطائفة، وليغدو أي منصب منصباً وطنياً يتولاه كل مستحق له، من حيث المبدأ، بغير نظر إلى طائفته، ولن يصنع هذا العبث الطائفي إلا أن يربك الأجيال القادمة بمشاكل دستورية، ويفسد العمل التنفيذي والتشريعي لفترة، ويضطر تلك الأجيال إلى إضاعة الوقت في إصلاح ما فسد من سلوك سياسي، وإلى إصدار قوانين تفسيرية، وإلى الاجتهاد في إلغاء أعراف ضارة. على أن التاريخ لن يسامح، يومئذ، أصحاب المؤامرات الطائفية، والرؤوس المتحجرة، وما جروه على الناس من وبال وبؤس.

مخارج غير مقبولة ولا ممكنة
وحفاظاً على حياة الطائفية يحاول بعضهم قتل لبنان، إذ يقدر بعض الطائفيين أن المخرج من ذلك المصير هو محاولة إلغاء النظام المركزي، وتحقيق لا مركزية إدارية موسعة أو اتحاد دويلات لبنانية، ذاهبين إلى أن العناد الطائفي ذو ضرر وقتي لكنه نافع في المستقبل للأقليات الطائفية اللبنانية كما يحبون أن يصفوها. وربما بنى بعضهم آمالاً على موجة التطبيع مع العدو الصهيوني، وعلى حماية هذا العدو المحتملة للأنظمة العنصرية الطائفية. وكلا التطلعين بعيد المنال، لأن الأول يقتضي توافقاً وطنياً بين جميع فئات الشعب اللبناني، وهذا غير متوافر وغير قابل للتحقيق إلا بحرب طائفية، ولا أحد يريد هذه الحرب، وحتى لو وقعت فإن الخاسر الأكبر فيها سيكون مشعلوها، لأنهم يسيرون عكس التاريخ وعكس طبيعة الأشياء؛ ولأن اللامركزية الموسعة والاتحاد ينشآن من اجتماع عدة دول أو مقاطعات مستقل بعضها عن بعض وتجد منفعة لها في جعل بعض السلطات مشتركة بينها، وجعل بعضها الآخر مستقلاً، ولبنان دولة واحدة لا مجموعة دول مستقلة، ولو حاول بعضهم العمل على جعله دويلات طائفية ومذهبية، وأي دعوة إلى هذين النظامين إنما هو مطالبة بالتقسيم الذي يرفضه أكثر اللبنانيين. وافتعال الولايات المتحدة للنظام الاتحادي في العراق بعد غزوها له أثبت إخفاقه، ولم يفض إلا إلى الخراب والموت، ويبدو تمهيداً لتقسيم الدولة، كما يبدو الحكم الذاتي المفروض على بعض مناطق سورية اليوم إعداداً لتقسيم سورية. وأما التعويل على العدو الصهيوني فقد جربه بعض اللبنانيين وخرجوا منه بخفي حنين، لأن المسيحية والإسلام نقيض الصهيونية وعدوّها الأكبر.

خلاصة القول
وفي النتيجة فإن دستور الطائف لم يطبق تطبيقاً سليماً حتى الآن: عطل جزئياً بفضل هيمنة النظام السوري على القرار اللبناني، ويراد تعطيله كلية بفضل الهيمنة العونية، حتى إذا حدث الانهيار نسبوا العلة إليه، وقالوا بعدم صلاحه ووجوب إنشاء دستور بديل منه أو قيام نظام جديد مكان النظام القائم، فكانوا كمن يمنعون الزوج من مقاربة زوجته ثم يتهمونه بالعقم؛ وهذا يجعل لبنان في مرحلة احتضار: فإما احتضار الطائفية عند تطبيق الدستور بوعي وإخلاص وصدق، أو احتضار الأمة بسبب الطائفية، ومن الصعب أن يستسلم اللبنانيون لجنون الطائفيين وأن يدع الإخوةُ والأصدقاءُ لبنان للمصير القاتم. والأرجح أن تحتضر الطائفية وأن تنازع زمناً، ثم يدخل لبنان في عهد جديد عصري حديث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها