الإثنين 2021/03/08

آخر تحديث: 18:25 (بيروت)

لبنان وفيروز والجحيم

الإثنين 2021/03/08
لبنان وفيروز والجحيم
خراب المكان، واستنقاع الزمن، وفساد البشر (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

كنت أسمع فيروز تغني "الله معك يا هوانا": "نبقى سوا وصوتك بالليل يقلّي وأنا عم اسمع، بحبك حتى نجوم الليل نجمة ونجمة توقع.." ورحت أبكي بكاء حارقاً، لاإرادياً، مربكاً ومحرجاً. شعرت أني فقدت السيطرة على غامض مجهول في داخلي، انفجر بعد كبت مديد. وأنا الذي بالكاد استمع للرحابنة وأستغرب ذاك الوله الذي يبديه البعض لـ"سفيرتنا إلى النجوم". لم أفهم ما حلّ بي، وكيف أصبت بهذا العارض الأشبه بالانهيار العاطفي.

كان ذلك مساء الجمعة، أي حين "نهرب" من بيروت إلى تلك الجنة الصغيرة في خليج عمشيت، قرب ميناء الصيادين، تاركين عمداً تلفزيونات السياسة ودفق الأخبار المدمّرة للأعصاب.

هناك، لا نريد سماع سعر الدولار ولا أي ترهات أحزاب وجماعات وزعامات مقيتة. لا نريد مشاهدة الدخان الأسود ولا جحافل "الموتوسيكلات". لا نريد متابعة هذيان الطوائف ولا التلصص على عذابات الناس اليومية وقصصهم الكئيبة الموجعة.

"نهرّب" خادعين أنفسنا أننا نبتعد حقاً عن يومياتنا التعسة المشبعة بالمرارة والقهر. بل ونهرب جارّين معنا شعورنا بالذنب أن لدينا "امتياز" ذاك الملجأ البعيد عن بئر المأساة التي تبتلع اللبنانيين.

كان ليل ونجوم في سماء ربيعية وأصوات بحر وحفيف شجر على مدّ النظر.. وأتى صوت فيروز ودمّرني بغتة. راحت دموعي تنهمر كطفل معذب. كأني في جسد آخر وعيون غريبة. وصرت أرى نفسي كأحمق أو مراهق توهنه كلمات أغنية.. مجرد أغنية سمعتها آلاف المرات في حياتي من غير انفعال زائد عن الاستحسان.

ما الذي أصابني تلك الليلة؟ وأنا لست من أولئك اللبنانيين المغتربين في كندا أو أستراليا الذين لم يبق لهم من رصيد الحنين والذكريات سوى ذاك الصوت البلوري. ولست أيضاً من أولئك الذين لا يعرفون الاستيقاظ سوى على تلك الأغاني الرقيقة.

كان مشهدي أمام رفاق السهرة مخجلاً.. لكنهم أيضاً لم يقاوموا كثيراً، أدمعوا الواحد تلو الآخر. أصبتهم سريعاً بعدوى هذا البكاء الصامت، حتى تبددت بهجة السهرة كلها.

ربما كنا نعرف ما الذي حلّ بنا. نعرف أننا –كما قالت ريم- نتحول إلى أشباح، ننتمي إلى ماض. أو على الأصح، ننتمي إلى بلد أضحى من الماضي. نبكي النهاية والفوات. هي لحظة "انكشاف" أمام كلمات الأغنية البسيطة، أمام ذاك الصوت الرائق، والموسيقى التي لا يمكن تسميتها إلا "اللبنانية". كلمات وصوت وموسيقى لا يمكن اجتماعها هكذا.. بل مستحيل "خلقها" من غير نصاب بلد وبشر ومخيلة واستواء مكان وانتظام زمن. مستحيل تأليفها في عدم وعبث وفوضى.

هي دموع وداع وحسرة على حياة كاملة وبلد بأسره تبددا، على شعر أصبح مستحيلاً وممتنعاً. أهذا لبنان اليوم يصح فيه كتابة أغنية "طريق النحل"؟ أهذه بلاد ميشال طراد وعصفوره الذي يسكّتُ الساقية؟

لا، ليست تلك "رومانسية" طفولية بلهاء ولا مشاعر ساذجة ما أدمعنا، ولا استعادة للتعريف الزجلي الريفي للبنان وسيرته وتاريخه، التي لطالما استفزتني ورأيت فيها إنكاراً فاضحاً للتاريخ والواقع، وأحياناً وجدتها تغليفاً لخطاب متعصب طائفي.. إنما تلك القسوة التي نحياها اليوم، الظلام الذي يخيّم، الكلام المسموم والمحقون بهوس الحروب الذي يمزق فضاءنا، الفقر الذي يبتلعنا بلا هوادة.. وهذا التساقط لنصاب "دولتنا"، وموت المخيلة، وخراب المكان، واستنقاع الزمن، وفساد البشر.

بكينا لا بسبب فيروز بل لأننا صرنا في الجحيم. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها