أما في ما يتعلق بطبيعة العقوبات، فالتجارب تشير إلى مروحة من الخيارات. أبرزها يتضمن تجميد جميع أصول أشخاص وكيانات ومنع منحهم أي أموال أو أصول بشكل مباشر أو غير مباشر. ناهيك عن فرض قيود السفر عليهم. ثمة أيضاً حظر تصدير معدات قد تستخدم في القمع الداخلي (...)، وحظر تصدير الأسلحة وتقديم أي مساعدة وخدمات تقنية أو مالية ذات صلة. في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي يشارك أصلاً في العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على لبنان، لجهة منع تصدير أسلحة إليه، بعد حرب تموز 2006، وذلك من أجل المساهمة في مساعدة الدولة على بسط سلطتها وسيادتها على كامل أرضها، ولكي لا يكون هناك أي سلاح خارج سلطة الدولة.
مدى فعالية العقوبات
في كثير من الحالات إذاً، تعتبر العقوبات بمثابة واجب لا بد من الاضطلاع به، على الرغم من محدودية تأثيرها على الأنظمة الاستبدادية نسبياً. لكن ثمة تساؤل مشروع حول مدى فعالية أي عقوبات أوروبية محتملة على مسؤولين لبنانيين مفترضين، من خلال تجميد أصولهم في دول الاتحاد الأوروبي مثلاً. فما هي احتمالات النجاح، في الوقت الذي تعجز فيه أوروبا عن التصدي لمشكلة الجنات الضريبية وما تمثله من ملاذ للتهرب الضريبي في دولها الأعضاء؟
يسعى الاتحاد الأوروبي، من دون كلل، إلى تعزيز سياسات مكافحة التهرب الضريبي. لديه قائمة سوداء بما يسمى بـ"الجنات الضريبية" في العالم. لكن هناك مخاض أوروبي لتطوير هذه القائمة من أجل تعزيز فعالية الإجراءات والمراقبة ضد تلك البؤر التي تتيح للمتهربين من دفع الضرائب وللفاسدين ولمبيضي الأموال، إخفاء أموالهم وودائعهم المصرفية السرية. لا يتعلق الأمر فقط بكيانات من خارج أوروبا، مثل جزر البهاما أو جزر البرمودا والجزر العذراء البريطانية، بل أيضاً، بجنات ضريبية أوروبية، مثل هولندا ومالطا ولوكسمبورغ وإيرلندا وقبرص، بحسب انتقادات وجهها "الإتحاد الدولي للمنظمات الخيرية" (Oxfam) في تشرين الأول 2020، يتهم فيها الإتحاد الأوروبي بافتقاده للشجاعة السياسية اللازمة من أجل محاربة الجنات الضريبية. إذاً، كيف للاعب دولي كبير، بحجم أوروبا، يعاني من محدودية في مكافحة بؤر التهرب الضريبي وغسل الأموال، أن تكون تدابيره العقابية فعالة بحق متورطين في الإثراء غير المشروع في لبنان، خصوصاً أن هؤلاء قد يكونوا نقلوا أموالهم المنهوبة بطريقة يدوية، ووضعوها في أماكن "آمنة" توفرها لهم تلك الجنات الضريبية "المحمية"؟
تجربة تونس
سؤال نقدي آخر يفرض نفسه، وهو مستوحى من تجربة سابقة مع تونس. فمن أصل 32 دولة تشملها التدابير العقابية الأوروبية، ولو وبنسب وبمستويات نوعية وكمية متفاوتة، استهدف الاتحاد الأوروبي هذا البلد بعقوبات مرتبطة بنهب وسرقة المال العام. يتعلق الأمر إذاً بحالة شبيهة إلى حد ما بما يمكن أن تكون عليه الحالة اللبنانية. لكن التجربة التونسية لا تبشر خيراً (شأنها شأن التجربة الأوكرانية نسبياً). فتونس لم تستعد، منذ عشر سنوات وحتى اليوم، سوى 780 مليون دولار تقريباً من أصل حوالي 13 مليار دولار، يقدّر أنها أموال مختلسة من قبل نظام زين العابدين بن علي، الذي سقط عام 2011 إثر الثورة التونسية. صحيح أن الأموال هذه ليست مودعة كلها في دول الاتحاد الأوروبي. لكن العقبة الأساسية التي تعترض عملية استعادة تلك المودعة في أوروبا، تتمثل في عدم تقديم القضاء التونسي أدلة على أن هذه المبالغ تم تحصيلها بطريقة غير مشروعة. حتى سويسرا، التي أتاحت استعادة 4 مليون يورو من الأموال المنهوبة لمصلحة تونس، تتذرع بمثل هذه الحجة القانونية للامتناع عن تحقيق أي تقدم بشأن هذا الملف. ولا شيء سيَحُول دون خسارة تونس الأموال المجمدة في سويسرا (تقدر بأكثر من 300 مليون دولار) في حال لم تقدم أي مسوغ يتيح استعادتها قانونياً (...).
استعصاء لبناني
بمعنى آخر، لا يمكن للاتحاد الأوروبي، أو أي طرف آخر، أن يكون ملكاً أكثر من الملك. واستعادة الأموال المنهوبة ترتبط في نهاية المطاف بقدرة القضاء المحلي على تقديم إثباتات متينة للأوروبيين. فهل يمكن للقضاء اللبناني، غير المستقل وغير النزيه نسبياً، أو الاستنسابي، أن يحقق أي تقدم يذكر في شأن مسألة النهب المنظم للمال العام في لبنان، على مدى 30 عاماً؟ الجواب معروف سلفاً، لاسيما في ظل عدم وجود قانون فعال حول نزع السرية المصرفية عن المسؤولين وكل من يمت إليهم بصلة، وفي ظل عدم تسهيل التحقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان والوزارات والصناديق الرسمية.
في المحصلة، فإن أي عقوبات أوروبية على شخصيات وكيانات لبنانية، سواء شملت تجميد الأصول أو فرض قيود على السفر، أو الإثنين معاً، أو أكثر من ذلك، من المتوقع أن تكون نتيجتها هزيلة في حال لم يتم تزويد القضاء الأوروبي بأدلة تثبت وجود أعمال غير مشروعة واختلاسات وراء أصول يمتلكها السياسيون ورجال الأعمال في أوروبا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها