الخميس 2021/03/18

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

كي لا يُصبِح لبنان "ضاحية" شمالية منكوبة لإسرائيل

الخميس 2021/03/18
كي لا يُصبِح لبنان "ضاحية" شمالية منكوبة لإسرائيل
تدمير اقتصادي ذاتي وتصفية مقومات دولة المؤسسات (Getty)
increase حجم الخط decrease

"إلى غير رجعة". هذا هو شعار الحكّام والسياسيين اللبنانيين النافذين للدلالة على عدم أسفهم ولامبالاتهم حيال مسار تلاشي لبنان وزوال دولته أو ما بقي منها. إنهم يكتبون نهاية متعمّدة، ما المأساة فيها سوى تعبيراً عما يضمره هؤلاء الحكّام من شرّ للمواطنين وللحياة ككل.

بعد إفشال المبادرة الفرنسية
كيف لا، وهم تسببوا بكل مظاهر "السوء والكآبة والتعاسة" لدى الناس؟ كيف لا، وهم تشاركوا في نهب وهدر المال العام وموارد الدولة وصولاً إلى "تدمير" المالية العامة؟ كيف لا، وهم حكموا وأداروا السلطة من خلال الفساد والزبائنية والغنائمية، وتسببوا بكل أشكال الفقر والبؤس والظلم الاجتماعي؟

بسببهم، تتسارع وتيرة الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي. كلما ازداد "السقوط الحر" سرعةً، كلما ضرب الهلاك أعداداً إضافية من السكان. العيّنات والأمثلة لا تُحصى عن معالم هذا الهلاك. فواتير بالملايين، أكثر من مرهقة. عجز عن شراء حاجات أساسية، أكثر من مُهين. بدلاً من تعميم الارتقاء الاجتماعي، تسبب النظام اللبناني في تدهور مريب للمستوى المعيشي. بدلاً من تكريس العدالة الاجتماعية، ساهمت عملية النهب المنظمة طوال 30 عاماً، في تعميق الهوّة بين أثرياء ومصرفيين وتجار وأوليغارشيين يزدادون ثراءً، وطبقات عاملة ومتوسطة وفقراء يزدادون فقراً.

كان من الممكن تجنّب كل ذلك، لو تجلّت إرادة الإصلاح لتمكين الاقتصاد من إعادة النهوض، عبر حكومة مستقلة عن القوى التقليدية الحاكمة. أي لو أتيحت فرصة تغيير الفريق الحاكم واستبداله بفريق جديد، كفوء، غير فاسد، قادر على إدارة الأزمة وصولاً إلى إيجاد حلول لها، معقولة نسبياً. لكن تحالف الأوليغارشيين والمصرفيين وزعماء الأحزاب والمليشيات أفشل أي محاولة إصلاحية، حتى لو كاد الأمر يقتصر على "عملية تجميلية" لنظامهم، أي من دون تغييره جذرياً. أبسط دليل على ذلك يتمثل في إفشال المبادرة الفرنسية حول تشكيل حكومة برئاسة السفير والأكاديمي مصطفى أديب، وتطبيق برنامج إصلاحات سريع ومرحلي. لو نجحت تلك المبادرة، وطّبق حد أدنى من الإصلاحات، منذ شهر أيلول 2020 وحتى شهر آذار 2021، ألم يكن من المحتمل جداً أن يكون الوضع المالي والنقدي والاقتصادي والمعيشي مختلفاً جداً عما هو عليه اليوم؟

كيان هامشي
لكن سلوك المسؤولين السياسيين الحكّام أتى مشابهاً لتصرّف اللص الذي يكون مستعداً للقتل، ما لم يتمكن من السرقة. شرطُه لإبقاء الضحية على قيد الحياة أحياناً، هو الحصول على الغنيمة. وإنْ قوبل بمقاومة أو في حال لم يجد غنيمة ليسرقها، من المرجح جداً أن يُقْدِم على القتل. على هذا النحو، يتصرف هؤلاء الحكام اللصوص: إما أن يحافظوا على نظام "المناهبة" أو يقتلوا الناس معنوياً وجسدياً أيضاً. تجويع الناس دليل. سرقة مدخراتهم من قبل المصارف دليل. تفجير المرفأ دليل. تلويحهم بالحرب الأهلية دليل. والأدلة تفيض...

في المحصلة، أوصلوا البلد إلى حالة غير مسبوقة، تختلط فيها الأزمات الإنسانية والصحية والتربوية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والأمنية، والأخلاقية أيضاً. كل شيء بات مهدداً بالتعطيل. الموعد مع الفوضى يقترب أكثر فأكثر. فماذا يعني كل ذلك غير تحويل لبنان، ليس إلى دولة فاشلة وحسب، بل أيضاً إلى كيان هامشي على خريطة الشرق الأوسط؟

حكّام لبنان، كلهم من دون استثناء، أوصلوه إلى وضعية بات فيها مثيراً للشفقة. يعيش على طرف اللعبة. يكاد يكون غير مرئي من خارج منظار حالة الطوارئ الإنسانية والصحية والأمنية. لا دور له. أو يكون دوره ثانوياً للغاية في أحسن الأحوال.

لبنان "الرخيص"
الأهم والأخطر من كل ذلك، أن لبنان المنكوب سيكون هامشياً ومهزوماً في التنافس الاقتصادي والتجاري الإقليمي الذي يدخل في مرحلة جديدة مع موجة التطبيع الخليجي الإسرائيلي. إذا نجح البعض في جرّه إلى ركوب موجة التطبيع هذه، تحت الضغط والإبتزاز، أو بالإقناع، سيكون لبنان الضعيف والمنهار مالياً واقتصادياً، متأخراً جداً ومنعدم القدرة التنافسية. وضعيته الاقتصادية ستجعله، بحكم الواقع، ملحقاً باقتصاد إسرائيل أو باقتصاد إقليمي تلعب فيه إسرائيل دوراً محورياً بفضل التطبيع. سيكون لبنان رخيصاً. سيبيع التجار ورجال الأعمال أنفسهم وخدماتهم، والبلد الذي يهيمنون عليه، بأبخس الأثمان. هم المشهود لهم عبر التاريخ، بسرعتهم في نقل البندقية من كتف إلى كتف، عندما تتغير موازين القوى الدولية والإقليمية، وذلك ضماناً لمصالحهم الأنانية.

وإذا امتنع لبنان عن أي تطبيع مع إسرائيل، وذلك بموازاة إمعان الحكّام في المسار التدميري، سيكون البلد فاقداً لأي قدرة تنافسية بوجه دينامية اقتصادية وتجارية ملائمة لإسرائيل ودول الخليج. سيتفوّق مرفأ حيفا على مرفأ بيروت، خصوصاً بعد تفجير الأخير في 4 آب 2020، وما يعنيه ذلك من إمكانية إنهاء دوره الإقليمي لمصلحة المرفأ الإسرائيلي بعد إتفاقيات التطبيع. بمعنى آخر، سيكون لبنان منافساً غير جذاب للاستثمارات وللسياح وغير مؤهل لاستقطاب الشراكات الاقتصادية القيّمة.

في الحالتين، سيكون لبنان الخاسر الأكبر، علماً بأنه يمتلك موارد بشرية وإمكانات علمية تخوّله، إذا كان هناك تخطيط وإرادة جماعية وكفاءة ونزاهة، أن يصبح منافساً كبيراً لإسرائيل ولأي دولة أخرى مزدهرة في الشرق الأوسط.

"مميزات" الضاحية
بتطبيع أو من دونه، سيكون لبنان في وضعية تشبه، مجازياً، ما تمثله الضواحي الفقيرة للمدن المزدهرة، لاسيما في الدول المتقدمة. الضاحية بما تعنيه في المنظور السوسيولوجي السياسي من تجمّع عمراني مُشيّد في محيط المدن الكبرى. أو وفقاً لمعناها الشائع في كثير من الحالات والنماذج، بوصفها بؤرة فقر، حيث يكون الوضع الاقتصادي هشاً ومتأخراً مقارنةً مع أحوال المدينة. أو هو التجمع العمراني العشوائي الذي يتسم بالازدحام السكاني وضعف الخدمات العامة، والذي يتحول أحياناً إلى منطقة خارجة عن القانون. وحيث يعاني السكان من تهميش اجتماعي وفقر مدقع، في ظل ارتفاع حاد للبطالة وتدني المستوى التعليمي. وحيث يكون السكان خزاناً للهجرة. ألا تنطوي الخريطة الجغرافية السياسية اللبنانية اليوم على مثل هذه الخصائص؟

ألا يرى حزب الله أن هذا المشهد سيكون نتيجة حتمية للواقع المتمثل بالتدمير الاقتصادي الذاتي وتصفية مقومات دولة المؤسسات القادرة على التحكم وتصويب المسارات وترشيد السياسات وإنتاج وتنفيذ الإصلاحات؟ والمتمثل في هيمنة مجموعات المصالح الخاصة على الدولة؟ ألا يرى حزب الله أن هذا الخراب الاقتصادي والاجتماعي والانهيار المالي، الذي يتحمل قسطاً من مسؤولية السقوط فيه، إلى جانب مسؤولية الأوليغارشيين وزعماء الحرب، سيُحوّل لبنان، ومعه الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى ما يشبه الضاحية الشمالية المهمشة والمنكوبة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها