السبت 2021/02/27

آخر تحديث: 20:42 (بيروت)

سبت بكركي الكبير: حيوية سياسية استثنائية في المجتمع المسيحي

السبت 2021/02/27
سبت بكركي الكبير: حيوية سياسية استثنائية في المجتمع المسيحي
وجدوا في بكركي ملاذاً وبداية لطريق (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
بعد سنة ونيّف على تشرين الأول 2019، وبعد يوميات حشودها الاحتجاجية المديدة الغاضبة على أحزاب السلطة وزعمائها في لبنان، ماذا يريد المحتشدون في ساحة الصرح البطريركي في بكركي، بعد ظهيرة السبت 27 شباط 2021؟

جاءوا في الغالب من بلادٍ ومناطق مسيحية، إلى صرح له حضوره الرمزي في ذاكرتهم ومخيلتهم واجتماعهم المسيحي الوطني.
وهم شطور أو روافد أساسية في 17 تشرين. وقد تكون 14 آذار 2005 مثالاً بعيداً في ذاكرتهم ومخيلتهم. فهتاف "حرية، سيادة، استقلال"، تكرّر مرات على ألسنة جموعهم في ساحة الصرح.

وهم وقفوا في الساحة منتظرين أن يطلَّ عليهم من نوافذ الصرح شخص يعرفونه، ويبصرونه مباشرة بأعينهم من حيث يحتشدون في الهواء الطلق. ومباشرة في الهواء الطلق يخاطبهم ويستمع إلى هتافاتهم، وليس من صورته المرتسمة على شاشة كبيرة يخاطبهم. وهم يريدون أن يُسمعونه أصواتهم، وهو مستعد لسماعها. وقد فعلوا وفعل. وفي هذا شيء من حوار مباشر وحي.

والأرجح أنهم ما كانوا يعلمون مسبقاً ماذا سيقول لهم ذلك الشخص من نوافذ الصرح المشرعة التي أطل منها عليهم. والشخص بدوره قال كلاماً، ربما لم يكن يدري تماماً أنه الكلام الذي يريدون سماعه منه. وهم قاطعوه مراتٍ بهتافاتهم، فتوقف وأرجأ مرات كلامه، كي يمنحهم هنيهات لينهوا هتافهم، ويستأنف الكلام.

فبعد انتفاضتهم في 17 تشرين، ربما أرادوا صوتاً جامعاً، يعلو أصواتهم ويوحدها. صوت علني واضح واثق، ويخاطبهم من على منصة يعلمون أن لها مشروعية راسخة في تراثهم وتاريخهم واجتماعهم. ويريدون منها أن ترفع صوتها الذي يعلو أصواتهم الفردية، المنفردة والمتفرقة.

صوت يتبنّى 17 تشرينهم. يتبنى أصواتهم التي بُحّت واختنقت لكثرة ما هتفت في 17 تشرين، وربما خابت لأنهم لم يجدوا صوتاً يجمع شتات أصواتهم، ويمنحها تلقائية ومشروعية وهدفاً واضحاً: "نريد روح السلام الدائم، ونرفض العيش في ساحات القتال الدائم".

وهم بدورهم، في حوارهم المباشر مع هذا الصوت، حوروا واحداً من هتافات 14 آذار 2005: "أي يالله سوريا طلعي برا"، فجعلوه:" أي يالله، بيروت حرّة حرّة، إيران طلعي برا".

والهتاف الأخير هذا يخرج على إجماعات 17 تشرين التي كانت اجماعاتها آنية وشبه شكلية، وتستبطن فروقاً وتمايزات كثيرة، أثارت شغباً وصدامات كثيرة عندما خرجت إلى العلن في ساحات الانتفاضة.

لكن صوت صاحب الصرح تبنى 17 تشرينهم كلها وجمعها في شعارات جديدة، يعتبرها جامعة وعابرة للطوائف: "حياد لبنان الناشط. وعقد مؤتمر دولي بإشراف الأمم المتحدة، لإنقاذ لبنان. ولا يوجد جيشان أو جيوش في دولة واحدة".

والحق أن الصوت وصاحب الصرح يعلم أن هذه الشعارات ليست جامعة ولا عابرة للطوائف. وهناك طائفة على الأقل ترفضها وتعتبرها "خيانة عظمى".

لكن المحتشدين في باحة صرح بكركي، وسواهم كثيرون من الجماعات اللبنانية ومن منتفضي 17 تشرين، يريدون ويرغبون أن يسمعوا مثل  هذه الشعارات، وكثرة من المنتفضين كانوا يستبطنونها. ومنهم من اكتشف في يوميات الانتفاضة أنها من الشعارات التي يجب إعلانها وعدم التستر عليها.

غير أن المهرجان في الصرح البطريركي هو بداية طريق سياسي جديد، قد لا يعلم أحد مساره وإلى أين يفضي. تماماً مثل 14 آذار 2005 التي بدأت غامضة، وعلمنا وذقنا إلى أين أفضت. وتماماً مثل 17 تشرين التي بدأت واتسعت من دون أن نعلم كيف ستكون خاتمتها.

هكذا هي السياسة التي ترسي خطوة أولى وتنتظر استقبال الآتي.

لكن الأكيد أن ما حدث في بكركي بعد ظهر السبت 27 شباط، واقعةٌ جديدة في الحياة السياسية اللبنانية، وخصوصاً في المجتمع المسيحي. واقعة جديدة، على الرغم من أن لها ما يماثلها في الوقائع اللبنانية منذ 14 شباط 2005. وربما أيضاً لها ما يماثلها في المجتمع المسيحي تحديداً، منذ وصل الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا الرئاسي سنة 1988.

وربما يؤكد ما حدث في بكركي حيوية سياسية استثنائية في المجتمع المسيحي، مقارنة بما يحدث في المجتمعات الطائفية اللبنانية الأخرى. كأنما المسيحيون اللبنانيون على قلق وتفاعل دائمين مع الحوادث والأطوار المستجدة. وكأن قلقهم يخرجهم في منعطفات واختبارات على ولاءاتهم وخياراتهم السابقة، فيباشرون سعياً جديداً بحثاً عن طريق لقلقهم، وغالباً ما يجدون في صرح البطريركية المارونية ملاذاً وبداية لطريق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها