الأربعاء 2021/02/10

آخر تحديث: 15:01 (بيروت)

أن ننهزم ثلاث مرات

الأربعاء 2021/02/10
أن ننهزم ثلاث مرات
لم ندرك أبداً فولاذية الاستبداد وإجراميته (المدن)
increase حجم الخط decrease

علينا أولاً الإقرار بالهزيمة، أن ندبّر سقوطنا فيها بشيء من العنفوان، وبكثير من نبل الاعتراف. المكابرة هنا يلزمها قدر من الغباء. بل إنها تفاقم من وطأة الهزيمة وتحيلها اندحاراً.

المكابرة تضاعف من فداحة الهزيمة وتطيلها وتمددها، ويتحول معها المهزومون إلى متطوعين لهزائم متتالية، كلعنة مستمرة.

هذا بالضبط ما يشعر به اللبنانيون الذين انكفأوا إلى منازلهم منذ ربيع 2020. أدركوا أن كل شيء قد انتهى. أن الأمل الأخير تبدد. المعاندة كانت ستأتي بكارثة إضافية، إما على شكل حرب أهلية مدمرة، ومعروف سلفاً من سينتصر بها، أو حرب خارجية تطحن الجميع بلا خلاص.

اليأس السياسي انقلب إلى يأس وجودي ومصيري يوم 4 آب. كان "التفجير" بمثابة الضربة القاضية للكيان اللبناني الذي عرفناه، وحملنا هويته. ومنذ تلك اللحظة، تأبد الاستعصاء واستتبّ كواقع وحيد ونهائي. وعليه، بات المتاح هو تدبير الحياة والتأقلم معها بوصفها عيشاً خالياً من الأمل.

علينا أن نتصرف كمهزومين. ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات على الأقل.

المسار الذي اخترناه بعد أيار عام 2000، حين انزاح كابوس الاحتلال الإسرائيلي، هو استكمال التحرير بالاستقلال والسيادة، واستعادة الحرية كنسغ للحياة اللبنانية وللنظام السياسي الذي نريده. وكانت تلك اللحظة، بالنسبة لنا، هي أيضاً لحظة الخاتمة الحقيقية للحرب الأهلية، لغة وسياسة واجتماعاً. أمل هائل مدّنا بطاقةٍ وحيوية جعلتنا مندفعين "ناشطين" للقبض على المستقبل كما نشتهيه ونطلبه.. إلى لحظة 14 شباط 2005. الجريمة فجّرت الانتفاضة الناصعة بمدنيتها وسلميتها وشموليتها. لكن الجريمة باتت مسلسلاً دموياً وإرهاباً معمماً وإصراراً على القمع والبربرية ونشر الخوف.. باتت مشروع حرب أهلية قسرية رغم إرادة الشطر الأعظم من اللبنانيين.

وتلك كانت الهزيمة الأولى. مشروع اليأس الأول.

لكن من منا استطاع مقاومة الإغراء المذهل لثورات 2011، ذاك الوعد الشاسع على امتداد الخريطة العربية، والمستحيل الذي راح يتحقق في ساحات تونس والقاهرة وبنغازي. والأروع كان هناك في حمص وحماة ودمشق ودرعا.. يا للأمل التاريخي المدوّخ.

حتى هذا سرعان ما ذُبح بشراسة عمياء وبقسوة إجرامية سحقت شعوباً، سحقتنا بلا رحمة. ومرة أخرى كان الاقتراح: الخضوع أو الموت. المذلة أو الحرب الأهلية.

تلك كانت هزيمتنا الثانية. اليأس بعشرات الملايين من البشر، بمئات من المدن الممسوحة عن وجه الأرض.

لحظة تشرين الأول 2019، التي لا تُصدَّق، المفاجأة الكاملة والناصعة، أتت لتمزق مهانة الصمت طالبةً المستحيل مجدداً. أيام إعجازية أشبه باحتفال باذخ بوعوده الكبرى. وساد الظن أن الثورة انتصرت منذ الدقيقة الأولى لاندلاعها. كان اقتراحها بديهياً بوصفها إرادة نهائية وناجزة لجميع اللبنانيين. وظننا أن لا اعتراض عليها ولا عدو لها. فمن الذي يرفض الكرامة؟ من يرفض العدالة؟

وكنا ساذجين.. بالغي السذاجة. أبرياء إلى حد البلاهة. لم ندرك أبداً فولاذية الاستبداد وإجراميته واستعداده لتدمير البلد على رؤوسنا.

كانت هذه هزيمتنا الثالثة. معركتنا الأخيرة وقد استنفدنا المفاجآت والمعجزات كلها لأكثر من عشرين عاماً. وإذا كان الجيل الأسبق قد اكتفى بهزيمة عام 1967، ومضغها بكل مراراتها.. فإن جيلنا التعس نُكب بثلاثة هزائم متتالية. كل واحدة منها كافية كـ"تاريخ" تام، وكمصير ناجز ومكتمل.

لذا، حان الوقت لنقرّ ونعترف بالهزيمة. علينا أن نقول هذه "التجربة" كما هي بلا أوهام زائفة، كأفضل ما يمكن منحه للجيل الجديد. ربما هذا هو واجبنا الأخير تجاهه، أن نعطيه درساً يستحق القراءة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها