الأحد 2021/12/19

آخر تحديث: 10:09 (بيروت)

حين كتب جبران خليل جبران: "لبنانكم مشكلة دولية"

الأحد 2021/12/19
حين كتب جبران خليل جبران: "لبنانكم مشكلة دولية"
منذ القرن التاسع عشر، تتأجج الصراعات الطائفية بتأثير من الخارج (Getty)
increase حجم الخط decrease

فيلم "تسعون" عن الأديب اللبناني، ميخائيل نعيْمة، هو عمل وثائقي للمخرج السينمائي الراحل، مارون بغدادي. عرضه "نادي لكل الناس" في ختام مهرجان "الفيلم العربي القصير"، في مقر "المعهد الفرنسي" في بيروت، يوم الجمعة 10 كانون الأول 2021، ثم في متحف سرسق في الأشرفية، يوم الثلاثاء 14 كانون الأول. لا يتعرف المشاهد على شخصية ومسيرة حياة ميخائيل نعيْمة، وحسب، بل أيضاً على شاهد على مرحلة تأسيس دولة لبنان الكبير في عشرينيات القرن الماضي، حين كان هذا البلد "مشكلة دولية" ولا يزال!

يروي نعيْمة كيف أن إبن بسكتنا المتنية، في جبل لبنان، كان بإمكانه أن يبدأ الدراسة في مدرسة أرثوذوكسية تابعة لإرسالية مدعومة من روسيا القيصرية، التي استلحقت نفسها متأخرة لمنافسة الإرساليات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية الأوروبية والأميركية..، قبل أن يتابع تعليمه في مدرسة أرثوذوكسية في مدينة الناصرة في فلسطين. فيلاحظ المشاهد هنا كيف كانت حياة شعوب هذه المنطقة متداخلة، لا تحدّها حدود، قبل تقسيمها من قبل بريطانيا وفرنسا وقبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.

"لكم لبنانكم ولي لبناني"
وعندما يتحدث نعيْمة عن مسيرته برفقة جبران خليل جبران، في نيويورك..، يوجه رسائل كثيرة ومتنوعة، ظاهرة وكامنة. عن الله. عن الدين. عن الإنسانية. عن الثورة الصناعية. عن العالم. عن القرية والمدينة. عن السياسة. عن الحرب. عن بيروت. وعن لبنان.. وهنا يذكّر نعيمة بمقالة جبران خليل جبران الشهيرة: "لكم لبنانكم ولي لبناني" التي نشرت في كتاب بعنوان "البدائع والطرائف"، مطلع العشرينيات.

في تلك المقالة، يشخّص جبران عِلَل لبنان. تشخيصه لا يزال ذات صلة حتى اليوم. فيقول مثلاً إن "لبنانكم هو مشكلة دوليّة تتقاذفها الليالي...". ثم يقول في مكان آخر: "لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها..". توصيفان صاغهما الأديب اللبناني العالمي منذ حوالى 100 عام، وتلخصان بمنتهى البلاغة، المعضلة اللبنانية التاريخية، الناتجة عن التداخل بين الصراعات الداخلية على السلطة في لبنان والتنافس الدولي من أجل الهيمنة على منطقة المشرق.

صراع الأمم
يتبدّل اللاعبون. يتغير النظام الدولي. أما المشكلة فتدوم، منذ القرن التاسع عشر، مروراً بنظام الانتداب وتأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، وحقبة "الاستقلال" والحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي ثم حقبة التفرد الأميركي، وصولاً إلى الصراع العربي الإيراني.

هذه المشكلة موروثة من حقبة التنافس بين الأمم الأوروبية التي كانت تسعى للتدخل في شؤون السلطنة العثمانية أو بناء مستعمرات في المناطق التابعة لها. وكان وقْع هذا التنافس مكلفاً وثقيلاً على الوضع الداخلي في جبل لبنان، خلال القرن التاسع عشر. هذا ما توضحه الباحثة الفرنسية، إليزابيت بيكار (Elizabeth Picard)، في كتاب لها عن لبنان، حين تشرح كيف أن القوى الأوروبية كانت تنظر إلى المسألة اللبنانية في القرن التاسع عشر بوصفها مسألة طائفية، وكانت تتعامل مع هذه الطوائف بشكل منفصل، مما جعل الأوروبيين يتحملون قسطاً كبيراً من المسؤولية في تحويل الصراعات الاجتماعية والاقتصادية في جبل لبنان إلى صراعات ما بين الطوائف، على حد تعبير بيكار.

منذ القرن التاسع عشر، تتأجج الصراعات الطائفية بتأثير من الخارج، وحين تُبْرَم التسويات، يتحقق ذلك بتأثير من القوى الخارجية أيضاً، بل برعايتها. هذا ما حصل في العام 1860، بعد حرب طائفية عنيفة، مع إرساء نظام المتصرفية الذي وفّر استقراراً معقولاً لفترة طويلة في جبل لبنان، بتوافق عثماني-دولي ومواكبة فرنسية.

"سايكس-بيكو"
في الحقبة التي تحدث فيها جبران خليل جبران عن لبنان بوصفه "مشكلة دولية"، كان التنافس بين الدول الاستعمارية في ذروته. خلال الحرب العالمية الأولى، في أيار 1916، أبرمت الدولتان الاستعماريتان، بريطانيا العظمى وفرنسا، اتفاقية "سايكس-بيكو"، تبعاً لاسم المفاوض البريطاني، مارك سايكس، والمفاوض الفرنسي، فرانسوا جورج-بيكو. تنص الاتفاقية على إخضاع منطقة لبنان وسوريا (وصولاً إلى الموصل) لنفوذ فرنسا، مقابل سيطرة بريطانيا على بغداد والبصرة وعلى منطقة ممتدة من العقبة والقدس وعمان وصولاً إلى كركوك. هذه الصفقة لا تنفي وجود واستمرار الحالة الصراعية بين المستعمرين، بل تؤكدها.

ويلسون وفكرة الانتداب
صحيح أن دور الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، كاد ينسف "اتفاقية "سايكس-بيكو"، أثناء انعقاد مؤتمر السلام العالمي في باريس، الذي افتتح مطلع العام 1919، وذلك عندما فرض على الفرنسيين والبريطانيين صيغة "الانتداب الدولي" تحت إشراف "عصبة الأمم"، وإرسال لجنة دولية لاستفتاء رأي سكان المشرق، خصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين وقليقيا في جنوب الأناضول، حول خيار الدولة المنتدِبة أي الوصية. وصحيح أن نتائج لجنة "كينغ-كراين" الأميركية، برئاسة كل من الباحث هنري كينغ، والصناعي من شيكاغو، شارل كراين، أظهرت أن الاتجاه الشعبي العام في سوريا يميل نحو الاستقلال أو نحو انتداب أميركي، أو بريطاني إذا امتنعت الولايات المتحدة عن الاضطلاع بالمهمة، مقابل رفض لأي انتداب فرنسي. وصحيح أنه في جبل لبنان، أتت النتائج مؤيدة للاستقلال أو أن يكون الانتداب فرنسياً. وحتى في بيروت وصيدا وصور وطرابلس كان هناك توجه عام مؤيد للانتداب الفرنسي. لكن عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى سياسة الانعزال.. ترك الساحة خالية من جديد لبريطانيا وفرنسا، اللتين حسمتا مسألة تقاسم المنطقة بينهما في مؤتمر سان ريمو عام 1920. لكن هذا التقاسم حصل في سياق من التنافس بين الطرفين، والذي كان لبنان أحد ميادينه.

صراع بريطاني-فرنسي
ففي أيار 1919، حالَت الخلافات بين البريطانيين والفرنسيين، في مؤتمر السلام العالمي، دون الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن مصير الدول العربية في منطقة المشرق. وكان ميزان القوى العسكري فيها يميل لمصلحة بريطانيا، فوجدت الأخيرة بذلك فرصة لإضعاف نفوذ فرنسا. نظّم البريطانيون، بالتعاون مع قوى عربية، حملة معادية لفرنسا في الشرق الأوسط، وذلك منذ العام 1918. ولم يكن يخل الأمر من استغلال المشاعر الدينية لدى المسلمين من أجل التحريض ضد فرنسا. أما الهدف الذي كانت بريطانيا العظمى تطمح إلى تحقيقه، فكان يتمثل في إخراج سوريا من دائرة النفوذ الفرنسي ووضعها إذا أمكن تحت السيطرة البريطانية (أو الأميركية)، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بحسب دراسة للباحثة، آن لوسي شانيُه أودان (Anne-Lucie Chaigne-Oudin).

عداء البعثات الأميركية للانتداب الفرنسي
في ظل هذا المناخ التنافسي، تمكنت فرنسا من السيطرة على لبنان وسوريا (تراجع الضغط البريطاني تم لأسباب تتعلق خصوصاً بارتفاع كلفة الانتشار العسكري في مناطق واسعة في المنطقة، فيما كانت بريطانيا خارجة للتو من حرب عالمية مكلفة..). وعندما باشر الفرنسيون انتدابهم، اصطدموا بمشاكل وعقبات عدة، أبرزها الحركة الاستقلالية ذات البعد العربي، ودور البعثات التبشيرية الأميركية المعادية للانتداب الفرنسي والداعمة للقوى الاستقلالية.

كانت واشنطن تخشى من التأثير السلبي للانتداب الفرنسي على الامتيازات التي حصل عليها الأميركيون منذ العام 1830 بالاتفاق مع السلطنة العثمانية، مما دفعها إلى عدم الاعتراف بالانتداب، إلى أنْ تم إبرام اتفاقية فرنسية-أميركية في نيسان 1924، حول تنظيم مسألة حقوق وامتيازات ومصالح الأميركيين المقيمين ضمن المناطق الخاضعة للوصاية الفرنسية. لكن قبل هذه التسوية وبعدها، كان هناك توتر وحالة عداء بين التبشيريين الأميركيين والسلطات الفرنسية. أما الأهداف العامة لهؤلاء التبشيريين، فكانت تتمثل في الترويج لـ"النموذج الأميركي"، ودفع السوريين (واللبنانيين) إلى التحرر من الهيمنة الأوروبية، ومواجهة البعثات التبشيرية الكاثوليكية والفرنسية خصوصاً. وكانت سلطات الانتداب تشتبه دائماً بوجود صلة بين الأميركي شارل كراين، الذي شارك في لجنة "كينغ-كراين"، والحركات الاستقلالية، إلى درجة أنها تتهمه بدعم وتمويل الثورة العربية الكبرى ضد الانتداب في العام 1925.

كل هذه الأحداث والتناقضات طبعت مرحلة تأسيس دولة لبنان الكبير في عشرينيات القرن الماضي. وأظهرت كيف أن تطوّر عملية بناء الدولة والحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، منذ تلك الفترة، كان تطوراً للبنان كمشكلة دولية، نَفَرَ منها كل من جبران خليل جبران وميخائيل نعيْمة..

زمن الاستقلال وما بعده
حتى عندما نال لبنان استقلاله، كان الخروج الفرنسي من لبنان تتويجاً لصراع دولي، مال ميزان القوى فيه لمصلحة بريطانيا مؤقتاً، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية، على حساب فرنسا المهزومة في الحرب العالمية الثانية. وكان شارل ديغول مدركاً لمدى مساهمة المكائد البريطانية في إضعاف النفوذ الفرنسي في المشرق، تحت ذريعة التصدي لخطر سيطرة ألمانيا النازية على المنطقة بواسطة "حكومة فيشي" المتعاملة مع الاحتلال النازي لفرنسا.

في العام 1958، تكرر مشهد التفاعل بين العاملين الخارجي والداخلي، أثناء الحرب الأهلية المصغرة التي شهدها لبنان المستقل، حين انقسم اللبنانيون بين فكرة الالتحاق بمحور قومي عربي بقيادة جمال عبد الناصر وفكرة الالتحاق بمحور غربي بقيادة أميركا المأخوذة في حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي. لم يتم تجاوز الاستقطاب الحاد الداخلي آنذاك، لكن التسوية التي أوصلت الجنرال فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية، على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، حصلت بدفع دولي وإقليمي، وتحديداً أميركي-مصري. فالتدخل العسكري الأميركي في لبنان، صيف 1958، ساهم في إنتاج تلك التسوية التي وافق عليها جمال عبد الناصر.

السيناريو نفسه تكرر في المرحلة الممتدة من 1989 إلى 1990. أي بين تاريخ إقرار "اتفاق الطائف" الذي أوقف الحرب التي اندلعت في العام 1975، وتاريخ إنهاء "تمرد" ميشال عون وبسط جيش الاحتلال السوري سيطرته على بعبدا وبيروت "الشرقية"، وبدء حقبة الوصاية السورية. الحرب اللبنانية نفسها كان لها في الوقت نفسه بُعْدٌ داخلي: التناحر بين الطوائف، وبين التيارات اليمينية واليسارية والقومية المختلفة. كما كان لها بُعْدٌ خارجي، يصفه ويصف متغيراته الباحث والمؤرخ اللبناني، جورج قرم، بكل دقة، حين يحلل الحالة الصراعية اللبنانية باعتبارها امتداداً للتنافس الروسي-الأميركي في الشرق الأوسط، وللصراعات والنزاعات الإقليمية المتعددة: الصراع العربي-الإسرائيلي، والصراع بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، والصراع بين العراق وإيران، وبين سوريا والعراق، أو حتى النزاع بين إيران وفرنسا. أما حقبة "السلم السوري"، فكانت كناية عن هدنة هشة. وكان كل لاعب دولي وإقليمي يحاول أن يجمع ما أمكنه من أوراق وبناء أوسع شبكة ممكنة من الحلفاء أو الوكلاء المحليين. وهذا هو القاسم المشترك بين لعبة كل من سوريا وإيران والسعودية، وفرنسا والولايات المتحدة، وإسرائيل التي حاولت إطالة أمد احتلالها لجنوب لبنان والاحتفاظ بنفوذها فيه. وفي المحصلة، تسببت اللعبة بمأساة، كُتِبَ أول فصل من فصولها في 14 شباط 2005، تاريخ اغتيال رفيق الحريري.. فيما لا تزال نهايتها مؤجلة حتى إشعار آخر.

في حالة الصراعات الحادة والحروب، أو في حالة التسويات، ترتبط المعادلة السياسية والأمنية اللبنانية بمصالح وأهواء اللاعبين الدوليين والإقليميين. وفي ظل غياب دينامية محلية مستقلة بالفعل، عابرة للطوائف، ومتحررة من قبضة الوكلاء المحليين للمصالح التجارية والاقتصادية الأجنبية، سيبقى لبنان "مشكلة دولية" دائمة.

قائمة المراجع:
- George Antonius, The Arab Awakening: the Story of the Arab National Movement, London, Hamilton 1961.

- Valérie-Hélène Azhari, La politique française au Liban durant la seconde guerre mondiale, Mémoire DEA sous la direction de Serge Berstein, 2003.

- Anne-Lucie Chaigne-Oudin, La France et les rivalités occidentales au Levant : Syrie-Liban, 1918-1939, Paris, l'Harmattan, 2006.

- Anne-Lucie Chaigne-Oudin, La France dans les jeux d’influences en Syrie et eu Liban. 1940-1946, Paris, l'Harmattan, 2009.

- Georges Corm, Le Liban contemporain : Histoire et société, Paris, la Découverte, 2005.

- Philippe Droz-Vincent, Le Moyen-Orient. Histoire et civilisations, Paris, Le Cavalier Bleu, 2008.

- Irene Gendwier, Notes From the Mine Field: United States Intervention in Lebanon and the Middle East: 1945-1958, New York, Colombia University Press, 1997.

- Henry Laurens, Oriental, Paris, CNRS Editions, 2007.

- Elizabeth Picard, Liban : État de discorde, des fondations aux guerres fratricides, Paris, Flammarion, 1988.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها