السبت 2021/10/30

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

هَجْر السلاح أو الهجرة إليه

السبت 2021/10/30
هَجْر السلاح أو الهجرة إليه
أمن الجماعات، تحميه الجماعات ذاتها! (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

عاد لبنان أدراجه إلى حقبته السبعينية. سريعاً حضرت لغة الإنقسام الأهلي، التي ميَّزت الاحتدام السياسي الذي عصف بلبنان، بعد العام 1969، وعلى امتداد سنوات الحرب الأهلية اللاحقة.

السلاح ليس أدوات القتال فحسب، بل هو ترسانة مختلطة من المفردات النابذة، ومن ابتكار المعازل الجماعاتية القسرية، ومن ادعاءات التاريخ، سواء منه، الراسخ في القِدم، أم ذاك الطافي على سطح مياه الأيام.

جغرافيا الإنقسام
لبنان الذي صار مساحة جغرافية ذات حدود خارجية معلومة، بعد سنة 1920، أي سنة إعلان لبنان الكبير، ظلّ لبنان الحدود الداخلية المرسومة بالهواجس العميقة، المحروسة بالنفور "الغّيْرِي"، والعصيّة على الاختراق من الآتي من جهة "التدخل" أو الانسجام، أو كل ما قد يحمل تهديداً باندماج عام. لقد رأت "المحميّات" المختلفة في الاندماج، اجتياحاً لخصوصياتها، وهي ما زالت مقيمة على عهود حراسة هذه الخصوصيات.

إذن، ومن مداخل مختلفة، اجتماعية، وتاريخية، وثقافية، ودينية، تشكّلت خطوط فصل غير مرئية، أثبتت أنها "أمنع من عقاب الجو"، واستمرّت كخطوط دفاع صلبة، حاجبة ومانعة، عندما تراجعت خطوط الجغرافيا المرئية، والملموسة. جغرافيا الانقسام التي أرادها الرسّام واحدة، حَرَستها جغرافيات القسمة، التي لم تركن يوماً إلى هدوء الحدود العينية المرسومة.

أهزوجة التاريخ
الأهزوجة لم تولد مفردة مكتملة القوام، بل كانت كناية عن أهازيج متعدّدة موزّعة على عدد أصوات أصحابها. ولأسباب احتفالية، وتمريراً لمواسم الاحتفالية المتبادلة، تكاذب القوم فادّعوا فرحاً في أفراح غيرهم، وتقنّعوا بالحزن، عندما عَلَت الرايات السود في ديار الآخرين، القريبة من ديارهم. وكما هي العادة في لبنان، لكل أهزوجة تاريخ، ولها مَطْرَح وسُكنى. الأهزوجة الكيانية الأولى، كانت يوم التأسيس، ولم يعكّر صفو الفرح اعتراض جماعة من هنا، أو اعتراض بعض جماعة من هناك. الأهازيج الإنشائية، التي تلت التأسيس كانت كثيرة، ولم تكن كلّها على سويّة هدوء واحدة، إذ، وكما هو معلوم، كان للأهازيج أيام فرح، وكان لها "ليالي جهات حزينة".

في خضّم الصَخَب، الذي صار سيرة حياة لبنانية، اختلط اللبناني الشاطر، باللبناني المغامر، باللبناني المقيم، باللبناني المغادر. لم تتّسع المساحة للبناني المغاير. صوت الفرح الآخر، كان خافتاً، وعندما حاول الصوت صراخاً، أسكته هدير "اللبناني واللبناني"، فكان الصمت العام سيّد الأصوات، في حضرة كل الأصوات الخاصّة التي لم تحاول استماعاً، وما زالت عند عتبة امتناعها عن المحاولة.

أحلام وأوهام
في ساحات جغرافية القسمة، وفي ظلال سيوف الاحتفالية التاريخية، نبتت أحلام، وعاشت أوهام. بين الحلم والوهم روابط مشتركة، فالإثنان يجمعهما رابط "النخبوية"، ويواجههما عائق "الأقليّة". والإثنان يجتمعان على نظرات ثقافوية، وتعوزهما القراءات المجتمعية المعمّقة، والمدققة. وفي ثنايا الحلم والوهم، تقبع تبادلية تستدعيها الخصوصية اللبنانية، فالحلم قد يكون وهماً عند بدء طرحه، والوهم قد يكون حلماً، عندما يدلي الواقع بمطالعة تسفيه الحلم... وفي لبنان وقائع دالّة، على الوهم - الحلم، والحلم - الوهم. من ذلك، حلم القومية الذي انكشف عن وهم، القومية بشقيها، ما اتّصف بصفة العروبة الشاملة، وما تكنّى بقومية سورية اجتماعية. ومن ذلك أيضاً، وهم القومية اللبنانية، الذي راود أصحابه في فضاء الحلم، فسقط على أرض التبدّد واليقظة. في السياق العام هذا ظلّت ظلال الماضي البعيد ماثلة، وحاضرة، ثم استحضرت كأجساد تامة، وكأسلحة عاملة، كلما بدا حاضر الوهم مستحيلاً، وكلما بدا مستقبل الحلم بعيد المنال.

واليوم..
بالأمس، قامت قيامة مجموعتين مذهبيتين. تبادلت المجموعتان التهم، حسب العرف اللبناني الأهلي، المجموعتان كانتا في وضعيّة الهجوم، وكانتا في الساعة عينها، في وضعيّة الدفاع. من يفصل بين الردّ والرد على الرد؟ لا أحد. ومن يدلي ببرهان عقلاني مادي، يدحض براهين المجموعتين؟ لا أحد. ومن يمكن قبوله كمحايد، إذا أدلى بما يناقض حجج المجموعتين؟ لا قبول. منطق الجماعتين، إما معنا وإما ضدّنا. ماذا يرتب ذلك على اليوميات اللبنانية؟

الخلاصة الأولى: أن الانفكاك الداخلي يزداد انفكاكاً.

والخلاصة الثانية: أن أمن الجماعات، تحميه الجماعات ذاتها.

والخلاصة الثالثة: أن القوّة ما زالت حارسة للمصالح، وعليه فإن على كل جماعة أن تحرس مصالحها بمنظومة دفاعها.

والخلاصة الرابعة: أن ما لم يستقم خلال الماضي اللبناني الطويل، لن يشتدّ عوده في المستقبل اللبناني المنظور.

والخلاصة الخامسة: إن هجران الآخر سيكون سبيلاً إلى طلب الأمن والأمان.

أما الخلاصة السادسة، فهي الخشية من أن يتداعى الوضع، فتصعب معه الهجرة الآمنة إلى الملاذ، فتكون الهجرة إلى السلاح، مرَّةً جديدة، بوابة عبور إلى تدمير ما تبقى من أهزوجة الكيانية التاريخية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها