الجمعة 2021/10/15

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

التنفس ممنوع

الجمعة 2021/10/15
التنفس ممنوع
عودة إلى لغة الرصاص والانقسام الطائفي (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

عندما تشكلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، صدرت إحدى الصحف المحلية بعنوان عريض على الصفحة الاولى يقول: "حكومة التقاط الأنفاس".

وقد خيل للكثيرين منا، في لبنان والعالم، أن هذا البلد قد تبدلت وجهته أو وضعيته، التي كاد يلفظ فيها أنفاسه قبل أسابيع، ويختنق من نقص الأوكسجين والضغط الإقليمي والمحلي على عروقه ورقبته, وقد راجت أفكار صبيانية مراهقة، تقول إن لبنان سيدخل مع هذه الحكومة مرحلة جديدة من التحضير، لبداية التعافي السياسي والاقتصادي، في الحد الأدنى، بدلاً من رحلة الغيبوبة والتلاشي الكاملة. لكن سرعان ما تبين أن هذه الانطباعات أو التمنيات كانت مخطئة أو مبالغ فيها بشكل كبير.

أول الغيث في محو هذه الانطباعات المغالية، أتت من ثلة من الوزراء الذين تلبسوا لبوس شخصيات، وأبطال كتاب ابن المقفع في رائعته كليلة ودمنة، مرة عن طريق الضفادع وصراعها للبقاء والهروب من أحد أوعية الماء العميقة، ومرة أخرى عن طريق العصافير التي تعمل في إطفاء الحرائق.

لكن الإشارة الأبلغ على أننا لم نتجاوز عتبة التداعي المخيف، وإن المطلوب  تلقي جرعة منشطة باستمرار، أتت من رئيس البلاد، رئيس الدولة، فخامة رئيس الجمهورية، الذي سارع وفي أول اجتماع للحكومة، بالدعس على قدم الدستور عبر تأكيد وجود ممثلين شخصيين له في لجنة المفاوضات مع صندوق النقد، مع أنه من المفترض والبديهي أن كل لجنة للتفاوض تابعة لرئيس البلاد من دون أدنى نقاش. وهذا ما يؤكده الدستور من دون ابهام  وفق المادة 52، وعلى الرغم من أن البعض تجاهل "الفَول" الأول من فخامته، عملاً بمقولة منح الفرصة للآخرين للعمل وعدم تعكير الأجواء الإيجابية في بدايتها. لكن بما أن عادة الإمعان في التأكيد على الأخطاء عادة لبنانية عامة، ومن أجل إبقاء أجواء التوتر السياسي الدستوري قائمة، مضت الرئاسة الأولى في دعوة مجلس الدفاع الأعلى للاجتماع والانعقاد، قبل قليل من كل جلسة لمجلس الوزراء، للتأكيد على أن "الرئيس القوي" لا يمكن أن يتراجع عن أي حق، ولا يفرط بأي ذرة من تراب الصلاحيات التي كانت ويفترض أن تعود!

بدوره وزير الداخلية، القاضي بسام المولوي، "أكمل النقل بالزعرور"، حين كشف أن رئيس مجلس الوزراء، نجيب ميقاتي، شجعه على الاجتماع برئيس التيار الوطني الحر، رئيس الظل جبران باسيل، خلال التحضير لتشكيل الحكومة واختيار الوزراء بعد طلب رئيس الجمهورية ذلك.

لم تمض أيام قليلة حتى تأكد للجمهور اللبناني، أن الكثير من التوقعات الإيجابية كانت إبرة وهم مغالية أكثر من الواقع الصعب والمعقد، زادتها قتامة الزيارة العلنية لأحد أبرز مسؤولي حزب الله الأمنيين الحاج وفيق صفا، إلى مبنى العدلية لإبلاغ المحقق العدلي طارق البيطار رسالة التهديد الواضحة أنه "وصلت الأمور معنا منك للمنخار"، ثم أتت مواقف وزير خارجية إيران أمير عبد اللهيان، الذي منح لبنان كل الحب والحنان الكهربائي، لتفسح المجال أمام أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، ليقول في خطاب علني أن مهمة المحقق العدلي يجب أن تنتهي فوراً لأنها مليئة بالاستهداف السياسي بقصد الفتنة.

حين خرج رئيس تكتل التغيير والإصلاح، العماد ميشال عون، في آب 2009، ليقول من الرابية "لعيون صهر الجنرال ما تتألف حكومة"، لم يكن ليخطر بباله أنه حين يصل إلى رئاسة الجمهورية، سيأتي في العام 2021 وزير الثقافة ممثل حركة أمل، بسام مرتضى، ليضرب يده على طاولة مجلس الوزراء، ويقول أمام كل أعضاء الحكومة، الجلسة يجب أن ترفع و"ما في إبن مرا بيقدر يعتقل أو يوقف علي حسن خليل" متوجهاً إلى زميله وزير الداخلية بالقول “مذكرات التوقيف يجب أن تجمد ولن تستطيع تنفيذها والقاضي بيطار يجب أن يستبدل وتكف يده.. إلخ.

هذا النقاش الثقافي الفكري العميق في مجلس الوزراء سرعان ما عكس نفسه في اليوم الثاني على مستديرة الطيونة، فأطلق قناصة القوات اللبنانية -حسب اتهام الثنائي الشيعي- في لحظات التوتر، رصاصهم، في تكرار لحادثة عين الرمانة، فأدت إلى سقوط 6 قتلى و32 جريحاً.

باختصار عاد لبنان إلى الوراء 46 سنة بلمح البصر. وكأنه لم يجرب ولم يتعظ ولم يعش الحروب المتناسلة.

انهيار اقتصادي ومؤسساتي في الخاص والعام، وهو يقف على مشارف انهيار أمني، وعودة إلى لغة الرصاص والانقسام الطائفي، الذي قد يطيح بما أبقت عليه المحنة التي اندلعت عام 1975.

مشاهد الأطفال المحشورين خوفاً في صفوف المدارس وعلى الطرق، قالت للبنانيين رسالة واضحة: التنفس ممنوع.. عودوا إلى الحفرة من جديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها