الموهبة هي هنا: أن تقنع الآخرين بتلك الكلمات الجوفاء إلى حد منحك السلطة عليهم.
مع ذلك، تبقى لغة السياسي مستلّة من فولكلور مألوف لثقافة سائدة: الزجل والشعر والرواية والأغنية و"أدب" الصحافة والأمثال الشعبية وفقرات من كتب الدين والثقافة المدرسية، وما لقنته إياه الوالدة كطفل فطن، مضافاً إليها بطبيعة الحال أفكار حزبية مبسّطة و"تراث" سياسيين سابقين..إلخ. إنها عدّة الشغل المعتادة.
بالمقابل، هناك صنف جديد وفد إلى السلطة أو لـ"تمثيل" سلطة متوارية، إنهم التكنوقراط. هؤلاء عموماً بارعون في مجال اختصاصهم. يمكن لواحدهم أن يكون خبيراً في الهندسة الزراعية أو في الأسواق المالية مثلاً. لكنه إجمالاً ساذج في ما يتصل بكل ماهو خارج عالمه المهني. وعلى الأرجح فإن فكرته عن "السياسي" ودوره تكاد تكون صحيحة: رجل مخادع وكاذب يستغبي الناس.
لهذا السبب بالذات، ما أن يناط بالتكنوقراطي منصب سياسي وزاري حتى يبدأ بتقليد رديء لشخصية السياسي وفق تصوره عنه بالذات: بعض الكذب والكثير من استغباء الناس، لكن من دون تلك "الموهبة" التي يتمتع بها السياسي الأصيل في فن الإقناع والثرثرة المجانية.
أما في حال أراد أن يقدم نفسه على سجيته، فسيرتكب على الأرجح هفوات وحماقات ينتظرها الجمهور ليمارس بتلذذ سخرية لاذعة وجارحة، تسبب له رضّة على نحو يفاقم من ارتباكه وهفواته.
أسوأ من ذلك، هذا التكنوقراطي يظن أنه باتت شخصية عامة بسبب عبقريته في مجاله واختصاصه، وتفوقه على أقرانه. ينظر إلى نفسه كهبة لبلاده. ولذا، يكتسب نرجسية إضافية تجعله أغلب الأحيان واعظاً قليل التواضع. (وقد برع الزميل مهند الحاج علي في وصفهم)
الأدهى في الحالة اللبنانية، هو التشويه الذي طال مفهوم "حكومة التكنوقراط" على نحو أشد تخريباً من مفهوم "الديموقراطية التوافقية" أو من مفهوم "النسبية". فآلة الفرم الهائلة التي تمزق كل فكرة، واحدة من مميزات الفساد اللبناني، بالمعنى الواسع لكلمة فساد.
فحين تحولت الطبقة السياسية برمتها إلى فئة مقيتة، وباتت نموذجاً شنيعاً للسلطة الفاسدة على مستوى عالمي، كان مطلب حكومة "الاختصاصيين المستقلين" شعبياً ثم دولياً (المبادرة الفرنسية بصيغتها الأولى)، ينم عن يأس تام من السياسيين وعن رغبة فعلية بإنقاذ "الإدارة العامة" ومؤسسات الدولة، ولو تطلب الأمر إشاحة النظر عن السياسة كتدبير لوجهة البلد ونظامه.
لم ينتبه أحد تقريباً أن السلطة القائمة ليست فقط مجموعة زعماء سياسيين على عدد أصابع اليد. بل أن الأخيرين هم رأس هرم شبكة تشمل المجتمع وتخترقه عمودياً وأفقياً بفضل غلبة الولاء الطائفي الذي يمنح الفرص.. كل الفرص. وهذا يتضمن بالأخص النخبة الأكاديمية والثقافية والاقتصادية. وعلى امتداد عقود، توطد "سيستام" أوليغارشي طائفي على يد هذه النخب بالذات. أي أنها الفئة الأكثر استفادة من الفرص والأكثر حرصاً على استدامة الفساد الذي يدر عليها الأرباح المادية والمعنوية.
لذا، كان سهلاً وجود اختصاصيين، لكن من شبه المستحيل وجود مستقلين يتاح لهم الوصول إلى أي منصب رسمي. وهذا هو التشويه المريع الذي أصاب مفهوم "حكومة التكنوقراط".
انقلب مطلب "الاختصاصيين المستقلين" من تهديد للعصبة السياسية إلى هدية لها لا تقدر بثمن، وإلى مخرج طوارئ ينقذها بشكل لم تتصوره من قبل. فقد تبين لهذه العصبة أن التكنوقراط اللبناني متوفر بكثرة بين "الأتباع". وهؤلاء ضعيفون جداً أمام إغراء حقيبة وزارية تضعهم هكذا في ما يظنونه موقع سلطة. وهم أيضاً فقراء في الأخلاقيات السياسية والثقافة الدستورية على نحو مشين.
والعقل التكنوقراطي في أفضل حالاته، كمثل حمد حسن (الصحة) يظن أن التعفف عن السمسرة أو سرقة المال العام كافٍ لدرء الفساد، أو أن أزمة الأدوية هي حصراً مسألة تقنية، وليست سياسية بامتياز. ويظن أن الانهيار هو مجرد سوء إدارة وليس موت نظام سياسي، تسبب به أولاً الحزب المسلح الذي أتى به وزيراً.
النسخة الأولى من التكنوقراط مع حكومة حسان دياب كانت بائخة وبليدة وبكماء سياسياً. مجموعة موظفين ربما أقل فساداً مما تعودناه مع الوزراء ممثلي الأحزاب. لكن ما لن يدركوه أبداً أنهم ساهموا بالدور الذي ارتضوه كفاقدين للقرار، في تسليم السياسة والدولة للطغمة. وهذا هو ذروة الفساد.
أما النسخة الثانية مع حكومة نجيب ميقاتي، فقد تحولت من البكم إلى التهريج والضحالة. تكنوقراط أشد سذاجة (خصوصاً الذي أتى بهم "الماكر" جبران باسيل)، مضافاً إليهم تكنوقراط أكثر وضوحاً في الولاء الحزبي والتبعية. وهم وفق ما صار معروفاً وشائعاً في أيام قليلة، أشبه بتلامذة المرحلة المتوسط المبهورين بـ"كليلة ودمنة".
المرعب هنا هو المثال الليبي: كان معمر القذافي في نظر الشعوب الأخرى، مهرجاً ومجنوناً مضحكاً وغريب الأطوار على نحو مسلٍ. لكن الليبيين كانوا يتألمون كثيراً عندما يسمعون هكذا آراء من الآخرين. فتهريج القذافي لم يكن مضحكاً أبداً لهم، وضحالته الفكرية لم تكن مصدر نكات.. بل كانت –عدا كونها عاراً وطنياً - مصدر تعاسة يومية وقرارات مميتة وكارثية وطغياناً قاتلاً لا يتورع عن تحويل مسرحه إلى مجزرة.
ما يحدث في لبنان هو العكس.. اللبنانيون "يتسلون" بالمهرجين والآخرون يرون الأمر كارثة ماحقة.

التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها