مشهد المداهمات التي تقوم بها أجهزة الدولة اللبنانية لمخابئ الأدوية والمحروقات يسمح بالظن، للوهلة الأولى، بأن هذه الدولة قررت استعادة هيبتها. لكن هل هذه التدابير العقابية كافية للتعامل معها بوصفها مؤشراً لعودة الدولة؟ هل يمكن للمواطن اللبناني بالتالي أن يتّكل من الآن فصاعداً على دولة تقوم بواجباتها وتمارس سلطتها ومهامها كاملةً لتفرض القانون بالتساوي بين الجميع؟ أم أن هذه التدابير مجرد استعراض يُراد منه ذر الرماد في العيون من أجل احتواء غضب الناس؟ أو أنها اندفاعة محدودة تعطي انطباعاً بأن للدولة هيبتها، لكن في الواقع هي هيبة موسمية، يُسْمَح لأجهزة الدولة بتجسيدها في توقيت ما، في مكان ما، في مرحلة ما، أي عند الحاجة؟ وهل هي هيبة انتقائية، تُفرَض على جزء محدود من مهربي ومحتكري الأدوية والمحروقات؟ وذلك فقط لتنفيس الاحتقان الشعبي وتمرير رسائل سياسية وتصفية الحسابات في ما بين القوى المتصارعة على السلطة؟
في مهب الريح
هذا المنطق التشكيكي يفرض نفسه لأن لا مكان للسذاجة مع قوى حاكمة تحترف المناورة والتضليل والإيحاء بتحقيق الإنجازات الوهمية. فلا مكان للهيبة في دولة تخضع عملية صنع القرار في مؤسساتها التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية لقوى من خارجها، مثل مجموعات المصالح الخاصة، كالمصارف وكبار التجار والمستوردين، والعائلات والبيوتات السياسية، وزعماء الأحزاب والمليشيات. في دولة تكثر فيها القوانين، ولكن تكاد تنعدم فيها الآليات اللازمة لتطبيق هذه القوانين، يصبح الحديث عن الهيبة مجرد هراء. في دولة لا تحتكر قرار الحرب والسلم واستخدام القوة العسكرية على أرضها لحماية أمنها وحدودها، تصبح الهيبة في مهب الريح.
أمثلة بسيطة وخطيرة
يمكن هنا تعداد أمثلة مختلفة، من أصغرها وأبسطها إلى أكبرها وأخطرها: فوضى السير على الطرقات تشكل دليلاً على فقدان هيبة الدولة التي تتعمد أجهزتها المختصة عدم القيام بالواجبات اللازمة من أجل ضبطه وتنظيمه؛ الانتهاكات المستمرة ضد الأملاك البحرية من قبل أشخاص ورجال أعمال يتمتعون بغطاء ودعم من قبل زعيم سياسي أو مناطقي، تمثل حالة من حالات غياب سلطة الدولة على أرضها بوجه المصالح الخاصة؛ تدخلات السياسيين ورجال الأعمال النافذين في عمل القضاء، من أجل ثنيه عن النطق بالحق لصالح أطراف مظلومة، أو من أجل دفعه إلى اتخاذ قرارات تمكّن مرتكبي الجنح أو الجرائم من الإفلات من العقاب، هي تدخلات مدمرة لهيبة الدولة؛ القيود غير القانونية التي فرضتها المصارف على حسابات المودعين، كنتيجة محتملة لأكبر سرقة لأموال الناس في التاريخ، تمثل دليلاً ساطعاً على تآكل سلطة وهيبة الدولة. أخيراً وليس آخراً، أي هيبة مع انتشار السلاح غير الشرعي لدى المليشيات خصوصاً، في مقدمها حزب الله الذي يسيطر على أجزاء من الأرض الوطنية ويتدخل عسكرياً خارج الحدود ويتحكم بقرار الحرب مع إسرائيل ضمن حسابات تتعلق بمصالح إيران الجيوسياسية.
حملة المداهمات المفاجئة
كل هذه الحالات غير الطبيعية تشير إلى أن الدولة موجودة نظرياً في لبنان، لكنها عاجزة عن فرض تطبيق القانون في مجالات واسعة. وهي لا تمارس سلطتها إلا ضمن هوامش محددة، بشرط عدم المس بالنافذين من أصحاب المصالح الخاصة، أي بمصالح المستفيدين من عدم تطبيق القانون، والساعين دوماً إلى منع الدولة من ممارسة سلطتها.
فجأة، شنت الأجهزة الأمنية الرسمية حملة، تبدو وكأنها ممنهجة في الآونة الأخيرة، لملاحقة محتكرين يقومون بتخزين الأدوية والمحروقات التي يعاني السوق من شح هائل فيها. وعثرت على كميات ضخمة من الأدوية والبنزين والمازوت لدى تجار تابعين لأحزاب نافذة في لبنان. أبرزهم يخصون حزب الله وحزب القوات اللبنانية، كما دلت الأحداث الأخيرة. لهذا الاستيقاظ المفاجئ للدولة تفسيرات عدة محتملة:
حيلة لتخفيف النقمة الشعبية؟
أولاً، بما أن الحالة لم تعد تُحْتمل بسبب نقص هذه المواد الأساسية وتلاعب المحتكرين بالأسعار بشكل نافر، من غير المستبعد أن تكون القوى الحاكمة قد ارتأت التضحية ببعض "أزلامها" من المحتكرين، بهدف تجنب انفجار اجتماعي وشيك. هكذا، تكون قد أوكلت إلى الجيش والقوى الأمنية مهمة مداهمة بعض "مخازن" المحتكرين وإلقاء القبض عليهم. خطوة كهذه، أو بالأحرى حيلة كهذه، من شأنها ربما التخفيف من حدة النقمة الشعبية وإرضاء الناس نسبياً ومؤقتاً، لاسيما بعد قرار حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، برفع الدعم. لكنها تبقى موضع شك ونقد طالما أن هناك شركات احتكارية كبيرة في قطاع الأدوية أو المحروقات.. لا تزال حرّة طليقة، وكأن هناك إجماعاً بين القوى السياسية على عدم المسّ بالمحتكرين الكبار.
ضغط دولي يستهدف الجميع؟
ثانياً، قد يتعلق الأمر بضغط دولي وغربي غير معلن، يهدف إلى قطع الطريق على كل الأحزاب وإجهاض مساعيها في مجال ما يسمى بـ"التخزين الاستراتيجي" للأدوية وللمحروقات.. وذلك استعداداً لمرحلة الانهيار، للسيطرة على مناطق نفوذ وتأمين شيء من الاكتفاء في إطار ما يسمى بـ"الإدارات الذاتية" (؟).
ضرب صدقية "القوات اللبنانية"؟
ثالثاً، قد يتعلق الأمر بمعركة لتصفية الحسابات في ما بين القوى المهيمنة والمتنافسة على السلطة. فأُطْلِقَت حملات محدودة شملت كل المناطق والمواقع والأطراف، وأدت إلى التضحية ببعض المحتكرين التابعين لهذا الطرف أو ذاك، وخصوصاً لحزب الله، ككبش فداء، وذلك تمهيداً للانقضاض الكلي على محتكرين مقربين من حزب "القوات". هكذا تتم إصابة هدفين بحجر واحد: أولاً، تنفيس الاحتقان الشعبي؛ ثانياً، إحراج "القوات" التي تصوّب باستمرار على التهريب غير الشرعي من لبنان إلى سوريا ومن مال المودعين في المصارف اللبنانية. حتى لو رفع هذا الحزب الغطاء عن المحتكرين من آل صقر، فما جرى يؤثر سلباً على صدقيته. إذ سيتساءل الناس حتماً: كيف يشن حزب "القوات" حملة سياسية وإعلامية ضد التهريب فيما يضم بين صفوفه تجاراً يُخبئون ويحتكرون المحروقات، علماً بأن السوق بأمسّ الحاجة إليها.
الترويج لقائد الجيش؟
رابعاً، أحد أبرز أهداف العملية (المحدودة) قد يتمثل في إظهار الجيش اللبناني بوصفه المخلّص الوحيد بوجه الفاسدين. فما جرى قوبل بردود فعل على مواقع التواصل الاجتماعي تصب في هذا الاتجاه. وكأن المطلوب هو الترويج لدور قائد الجيش، جوزف عون، وتعزيز مكانته وصورته، تمهيداً ربما لانتخابه رئيساً للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي، ميشال عون عام 2022.
كل هذه التكهنات وغيرها، ما كانت لتُطْرَح لو أن حكومة انتقالية، تتألف من قوى جديدة، هي التي أطلقت حملة مكافحة الاحتكار، ضمن استراتيجية عامة للتغيير ولتطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والإدارية الضرورية في هذا البلد. عندها، كان يمكن الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بمسار استعادة هيبة وسيادة وسلطة ودور الدولة اللبنانية. لكن أنْ تحصل الحملة في ظل وجود نفس القوى الحاكمة والمسؤولة عن الأزمة والانهيار، فهذا يعني أن هذه الإندفاعة الأمنية هي ظرفية ومحدودة ومخادعة واستنسابية، لن يصل مداها إلى كبار المحتكرين التابعين لكل الأحزاب والزعامات السياسية، أو المحميين منها والمتحالفين معها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها