الموت الرخيص
رخص أرواح اللبنانيين محسوم. إلا في حالات نادرة، نادرة جداً، لا تمّت إلى العدالة لخطف أرواح مواطنين. لا نتحدّث هنا عن جريمة سياسية أو اغتيال أو تفجير فحسب، بل حتى في الجرائم والحوادث التي يمكن أن تُرتكب في أي مجتمع. هو موت رخيص، وعلى ما يبدو فإنّ الأرخص من هذا الموت هو أرواح الضحايا. إذ لا تحقيقات ولا مسؤوليات ولا مجرمين أو قتلة أو مسؤولين عن سقوط الضحايا. للمصادفة، ربما، أن تكون الحالات النادرة لإيقاع القصاص بالقتلة قد تمّت على يد رجل واحد اسمه القاضي طارق البيطار. وهو نفسه، المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، الذي حكم بالإعدام على قتلة أزهقوا دماء مواطنين في الشارع. ويا للصدفة أيضاً، كل هذه الحرب والحملات والضغوط على البيطار في ملف مجزرة 4 آب.
الرواية الغائبة
في انفجار التليل العكارية، بعد أسبوع على المجزرة الجديدة، لا تحقيق بعد. أو أقلّه لا نعرف بأنّ ثمة تحقيق في الملف. موقوف وحيد، تحوم حوله شبهات سياسية وتقاذف لانتمائه السياسي. فعلياً، وقعت البقرة واجتمع حولها السلّاخون. لا يهمّ، ومتوّقع. لا تحقيق، فلا رواية لما حصل ليل 14-15 آب الماضي في عكار. حصل إطلاق نار، شعلة قداحة، تهديد، مجرّد حادثة؟ لا نعرف. والمطلوب، حتى أنّ لا نعرف. أن لا نسأل، وأن لا يسأل أهالي كل هؤلاء الضحايا عما حصل. قد تكون مجرّد حادثة، لا مؤامرة ولا عمل إرهابي أو حتى "توريطة". يحدث. لكن ما الذي حصل؟ حتى هذا الأمر، الدولة اللبنانية عاجزة عن تقديم روايته. تجتمع أجهزتها الأمنية وأحزابها ومكوّنات سلطتها، السياسية والقضائية والأمنية، ولا تقدّم جواباً. أو ربما تعجز عن تقديم الجواب. وفي عدم تقديمه أو العجز عن تقديمه بحث آخر. جرائم مالية لا مسؤولية فيها. جرائم بيئية لا مرتكب لها. جرائم فعلية لا قاتل فيها.
المسؤولية المتراكمة
بعد أسبوع على مجزرة التليل، ليس إذاً من جواب شافٍ لما حصل. فقط نعي للضحايا والكثير من البكاء، ومحاولات تطبيب وعلاج من بقوا على قيد الحياة خارج هذه البلاد. ليس من عمل نوابغ أو محلّلين القول إنّ مسؤولة ما حصل تنقسم إلى مستوات مختلفة.
أولاً، في التخزين غير المشروع للمحروقات وفي غياب أبسط أصول السلامة العامة.
ثانياً، في خفّة التعاطي مع توزيع المحروقات بعد مصادرتها على يد المعنيين الأمنيين.
ثالثاً، في سبب تخزين هذه المحروقات وسوء إدارة هذه المواد المدعومة وانقطاعها من الأسواق على يد محتكرين ومتلاعبين.
رابعاً، في تقاعس السلطات المعنية عن ضبط هذا القطاع، وغيره، وانفلات يد التجّار والسوق السوداء.
خامساً، في تقاعس السلطات المعنية أساساً عن إدارة الأزمة العامة في البلاد، والتي بات يدفع اللبنانيون ثمنها بالأرواح بعد أن دفعوا ثمنها بالجوع والذلّ والمرض.
العاقل والواقع
كل هذا يقودنا إلى خلاصة وحيدة: الدولة اللبنانية بمن فيها ومن يرأسها ويديرها ويحرّك أجهزتها المختلفة، مسؤولة عن قتل اللبنانيين. لا يقبل عاقل واقع أنّ القوى الأمنية والأجهزة القضائية قادرة على تحديد هوية مقتحمي منزل نائب أو قاطعي طريق أو محرّضين على الاحتجاجات، وعاجزة عن مراقبة عمليات تخزين وتوزين للمحروقات. لا يقبل عاقل واقع أنّ هذه السلطة السياسية قادرة على حشد العسكر لحماية عرس ابنة مسؤول سياسي سابق، وعاجزة عن ملاحقة بديهيات تخزين واحتكار يعرفها الجميع في كل قرية أو بلدة أو حيّ في مدينة. لا يقبل عاقل واقع أنّ الموت يحيط باللبنانيين من كل صوب ويتربّص بهم عند كل مفترق أو بوسائل متنوّعة وبمعدات مختلفة.
لا بد من جمع ضحايا هذه الدولة وسلطتها في مكان واحد للمطالبة بمطلب واحد: الحقيقة والعدالة والحياة. سيأتي الضحايا من كل صوب. من مرفأ بيروت ومن تليل العكارية. من غرقى قوارب الهجرة غير الشرعية. من طوابير الذل وإشكالاتها أمام محطات المحروقات والأفران والصيدليات والمستشفيات. من ساحات اعتصامات تم فيها فقأ العيون. من مصارف سرقت أموال المودعين. من جامعات لا مناهج فيها ولا كرّاسات. من مدارس لا تدفئة فيها ولا مياه. من حضانات لا حفاضات فيها ولا حليب. من بيوت لا كهرباء فيها ولا غذاء. من ضواحي قيل فيها إنّ الكرامة خبز يومي وأنّ العزّة بديل عن الوظيفة. من محاور الحرب الأهلية ومتاريسها التي قتلت اللبنانيين وهي تدعّي حمياتهم.
أين يمكن جمع كل هؤلاء الضحايا؟ أي ساحة تتسّع لمجتمع بكامله؟ أي مساحة يمكن أن تجمع شعباً بأسره؟ وثمة من يقول إنّ مساحة لبنان قد باتت 10452 كلم مربّع وباخرة. فمبروك عليهم كل البلد، ومبروك عليهم كل هذا الخراب، ومبروك عليهم كل ادعاءات الانتصار المبين على دماء اللبنانيين وأرواحهم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها