الأحد 2020/09/06

آخر تحديث: 14:42 (بيروت)

فرنسا الفرنسية.. فرنسا اللبنانية

الأحد 2020/09/06
فرنسا الفرنسية.. فرنسا اللبنانية
يحفل تاريخ النظام اللبناني بممارسات إضاعة الفرص الإنقاذية (Getty)
increase حجم الخط decrease

طرحت الاندفاعة الفرنسية صوب لبنان، جملة مسائل على بساط البحث المتجدد، وكانت مناسبة لإعادة قراءة موضوعات سياسية وقضايا خلافية، ما زال أكثرها متوقفاً، مع أصحابها، عند مقاربات وخطب أطاحت بها عقود من التطورات الدولية والقومية والإقليمية والمحلية. فرنسا في لبنان، ومن خلفها ما يشبه الإجماع الدولي، جعل "العالم الخارجي" عاملاً داخلياً، ما أعاد تسليط الضوء على معادلة الداخل والخارج، وعن العلاقة الإشكالية التي تربط بينهما، وعن خصوصية تلك العلاقة وسماتها، التي تختلف بين بلدٍ وآخر، تبعاً لأحوال داخله أولاً، ولطبيعة موقعه الجغرافي ثانياً، ولوقوعه على خط "الزلازل" السياسية والحسابات الاستراتيجية ثالثاً.. إلى ما سوى ذلك رابعاً وخامساً و..

فرنسا الفرنسية
تصرفت فرنسا في لبنان، وعلى لسان رئيسها إيمانويل ماكرون، كدولة عظمى، وقدمت خطاباً هو صنو مكانتها الدولية، التي تنطوي على مصالح تمسُّ برؤية الساسة الفرنسيين، لحاضر بلادهم ولمستقبلها، لكنها تنطوي في الوقت ذاته على حضور التاريخ بثقله الحضاري والإنساني، وبما تمثله السيرة الفرنسية في تطورها التصاعدي منذ قرون.

إذن، تكون القراءة قاصرة عندما تفسّر السلوك الفرنسي تفسيراً أحادياً، ويكون النقاش إختزالياً عندما يجرِّد السياسة من كل لبوسها التاريخي، بكل محمولاته، ليحيلها إلى موضوعات "نقداً وعدّاً" كما جاء في الأدبيات الماركسية. بناءً على ما تقدم، سيكون لزاماً على كل متابع للاندفاعة الفرنسية في لبنان، المنكوب على كل الصعد، أن يعيد انتباهه إلى جملة من القيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية، التي تحكم مسار بناء المصالح، والعمل على تحقيقها، عندما يتعلق الأمر بدولة عظمى مثل فرنسا. لقد كان لافتاً في بعض ما نُقل عن الرئيس الفرنسي، تأكيده على اعتبار تحدي النجاح في لبنان، وفي المنطقة، تحدياً "للحضارة" الغربية، هذا يعني، وإن من دون شرح، طرح السؤال عن كل السياسات التي اعتمدت حيال المنطقة العربية عموماً، مما يجعل الأمر مفتوحاً على "نقد ذاتي جماعي" من قبل السياسات الغربية، وهي تعيد اهتمامها بالمنطقة التي حكمتها ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. شجاعة النقد، تقود إلى شجاعة تفكيك السياسة إلى مكوناتها، وتفكيك رؤى المصالح إلى افتراضاتها، وهذا من المواضيع المهمة التي طرحتها فرنسا الفرنسية على ذاتها، وطرحته بالتالي على سائر الذين يريدون السير على هدى المراجعة التاريخية.

فرنسا اللبنانية
تطلع اللبنانيون إلى الرئيس الفرنسي تطلعاً خلاصياً، ووجدوا في نزوله بينهم نزولاً إنقاذياً. تلك كانت حال الصفوف الأوسع من الجمهور، هذا الذي بالغ بعضه، كرد فعلٍ على سوء أحواله، والذي حافظ بعضه الآخر على رباطة جأشه فأدلى بحزنه، على مسمع الرئيس الزائر بكلماتٍ رجائية.

في المشهد الاحتفائي بالرئيس ماكرون، انزلقت مكنونات داخلية تطعن بالانتظام اللبناني، فشكك الحشد علناً، بالرباط المواطني الذي بانت هشاشته. لقد شكَّل انفجار الرابع من آب وما سبقه، وما تلاه من سوء أحوال اللبنانيين، قوة رفع للغطاء التعايشي، فظهر أن الصمت اللبناني، والمجاملة الداخلية، وإدارة اليوميات الطويلة، لم تكن كلها أكثر من قيد قسري لم تتوفر الظروف المؤاتية لكسره، لعل البعض آنس في المؤازرة الإنسانية الخارجية، الفرنسية والدولية، مظلّة يتقي بها شمس الردود التساكنية "اللاهبة والغاضبة"، التي ستصدر عن طيف لبناني أو أكثر، ما زال يقرأ في كتاب التبعية العارية، وفي كتاب الصمود والتصدي ومقارعة الإمبريالية. بعد 4 آب كان لبنان لبنانَيْن أو أكثر، لكن فرنسا اللبنانية كانت واحدة، وهي وضعت في حسابها قدرات الداخل اللبناني واحتمالاته، وقرأت بدقة، ما يستطيعه لبنان وما لا يستطيعه، أي أن القراءة الفرنسية اللبنانية، خاطبت مصالح الاستقرار اللبناني، بدءاً من حاضره، وربطاً بمستقبله، هذا الاستقرار الذي لن يكون ممكناً إن لم يكن السلوك سلوكاً واقعياً عارفاً بالتوازنات اللبنانية وإشكالياتها.

في نقطة التوازن، كان "الفرنسي" لبنانياً أكثر من اللبنانيين، وعند مفترق الانحياز، انحاز إلى دفع التوليفة الداخلية المختلطة، صوب مسالك التسوية ليكون ممكناً فتح المعالجات العامة، التي ستكون وحدها كفيلة بإعادة وضع لبنان على خريطة مستقبله المهدد بأخطار الضياع.
لم يقرأ كل اللبنانيين في النص الفرنسي ذاته. فهم البعض، وباشر السير، وتفهم البعض الآخر، على مضض، والتحق بالمسيرة، لكن أحداً من القارئين لم يستطع الجهر بالمخالفة الصريحة. في تأويل هذا الاصطفاف، تكمن قوة السياسة وحكمتها، فإذا كانت السياسة "فن الممكن"، فإن الفرنسي اللبناني قد اعتمد ما أمكنه من ممكنات الفن، وأضاف إلى لوحة الفن ما تيسَّر له من "جمالياته" الخاصة.

لبنانية مختلطة
بمقدار ما يمكن تحديد الفرنسية، تتعذر الإحاطة باللبنانية، فهذه الأخيرة لبنانيات تتردد أصواتها منذ ما قبل اتفاق الطائف، ويترجّع صداها منذ ما بعده.

في اللبنانية خطاب الما فوق لبنانية، وخطاب الما دونها أيضاً. خطاب الما فوق موزع على إسلامية اتجاهات مذهبية، وعلى ماركسية موروثة منذ ثورة 1917 في روسيا، وعلى لغة قومية، باد أصلها الرسمي، واستمر خليط موروثها الشعبي.

أما خطاب ما دون اللبنانية، فموزع أيضاً على بعض من لبنانية الما فوق، وعلى عدد من مذاهب اللبنانوية، التي تنزل ما دون شروط الكيان، واستقامة أمره ككيان، وهي تتحدث عن الوطن النهائي الناجز. حقيقة الأمر، أن لا وطن ناجزاً، إلا الحلقة الخاصة التي صارت بمثابة وطن للفئة الخاصة. والحال، فإن خيط اللالبنانية يجمع بين لبنانية المافوق، ولبنانية المادون، لأن الصنفين المشار إليهما لا يؤديان إلى اللبنانية الراسخة فوق أرض مستوية واحدة.

تكراراً، استطاعت الفرنسية العارفة بالخطاب وما خلفه، أن تتسع لمنوعات اللبنانية، وأن تأخذ بيدها "عميان" المافوق والمادون، إلى المطرح السياسي الذي قد يستطيعون الإقامة فيه، والتأسيس ضمن شروط إقامته... إذ لعل وعسى...

النقاش المفتوح
يحفل تاريخ النظام اللبناني بممارسات إضاعة الفرص الإنقاذية، ويُسجّل للتوليفة الحاكمة المتحكمة في ظلال إتفاقية الطائف، "نجاحها" في الحفاظ على تراث ضياع نظامها، وإضاعته، لذلك فإن القلق يسكن العقول، والشك العميق يحيط بقدرة هذه التوليفة، وبأهليتها، على التقاط فرصة النجاة التي ربما كانت الأخيرة، وهذه إن أهدرت، قد يفتح الباب أمام تحقق الإنذار الذي ذكره الرئيس الفرنسي، ضياع لبنان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها