السبت 2020/09/05

آخر تحديث: 16:39 (بيروت)

مصير المسيحيين: ماكرون والبطاركة الأربعة و"التمايز" عن بكركي

السبت 2020/09/05
مصير المسيحيين: ماكرون والبطاركة الأربعة و"التمايز" عن بكركي
يعمل ماكرون على التأثير بالانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة (الوكالة الوطنية)
increase حجم الخط decrease

ليس صدفة أن يصل موفد البابا فرنسيس إلى بيروت. منذ ساعات كان الحبر الأعظم يقبل العلم اللبناني معلناً تاريخ الرابع من أيلول يوماً عالمياً للصوم والصلاة، تضامناً مع بيروت والشعب اللبناني. فلبنان التي رأت فيه يوما الفاتيكان "الرسالة" في خطر. وإن كانت روما لا تتحدث عن المسيحيين بشكل خاص، بل عن معاناة اللبنانييين، إلا أن ما يمثله تنوع لبنان بوجود مسيحييه، هو الرسالة الذي جعلت أسلاف البابا فرنسيس يزورون لبنان أكثر من مرة.

استثمار بالجيل الجديد
الموفد البابوي هذه المرة ليس وزير خارجية الفاتيكان كما جرت العادة أن يكون. بل جاء اختيار أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، ليؤكد عمق الرسالة والدلالة التي يرغب الفاتيكان بالتأكيد عليها.

الكلام الصادر من كاتدرائية مار بولس في بيروت ومن سيدة حريصا عن فعالية دور الشباب والشابات من الجيل الجديد، هو بيت القصيد في الرسالة الفاتيكانية اليوم. فهو يلاقي خطاب الفرنسيين والأميركيين الذين يبدو أن دورهم الآتي في البلاد سيكون عبر الاهتمام والاستثمار في الجيل الشاب. فالقوى السياسية في مفهوم المجتمع الدولي أصبحت من الماضي، أو خسرت نصف تمثيلها على الأقل. وعليه، لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون حيّ الجميزة وملاقاة أهله المنكوبين عن عبث. كما لم يكن لقاؤه بممثلي المجتمع المدني عن عبث أيضاً. شأنه كشأن المندوب الأميركي ديفيد شنكر، الذي رفض أي لقاء مع أي مسؤول لبناني، ما لم يكن اللقاء مرتبطا بترسيم الحدود مكتفياً بتكثيف لقاءاته مع النواب المستقيلين وممثلي المجتمع المدني أيضاً.

بطاركة لبنانيون استنجدوا بفرنسا
بدأت الحكاية قبل اندلاع ثورة 17 تشرين، يوم اشتدت الأزمة الاقتصادية والمالية. فبدا أثرها خطيراً على العائلات اللبنانية. يومها بدأ الحديث عن أكبر موجة هجرة للمسيحيين بعد موجة الهجرة التي أصابتهم في الحرب اللبنانية. ليس الخبر بسيطاً على المرجعيات المسيحية الروحية، سيما وأن التبدل الديمغرافي قد أصبح ثقلاً مقلقاً عليها، لما له من أثر على مستقبل وجود المسيحيين في لبنان. وبالتالي، واستدراكاً لأي موجة هجرة أخرى، لن تكون نتائجها محتملة هذه المرة، زار بطريرك انطاكيا وسائر المشرق لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك جوزيف العبسي، في أيار 2019، فرنسا، حيث التقى بالرئيس ماكرون. يومها كانت الرسالة شديدة اللهجة. فالعبسي ليس بطريركاً للمسيحيين في لبنان فقط بل في سوريا والعراق وسائر المشرق. قال العبسي لماكرون: سبق أن هاجر الملايين من المسيحيين في الحرب على العراق وعلى سوريا. وإذا بقيتم على الحياد، فسنأخذ القرار بالهجرة الجماعية أيضاً. تلقف ماكرون الرسالة بإيجابية. لم يكن الدخول إلى لبنان والعراق بعيداً عن أفكار الرئيس الفرنسي، الذي طلب من البطريرك العبسي لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإيصال الرسالة نفسها. لم تكن نصيحة ماكرون يتيمة. بل رافقتها وساطة قام بها مع رئيس المجر ليلعب دور صلة الوصل بين البطريرك العبسي والرئيس الروسي. وهذا ما حصل. في تشرين الثاني من العام 2019، توجه وفد من البطاركة إلى المجر. ضم وفد البطاركة بالإضافة إلى العبسي بطريرك الروم الأرثوذوكس يوحنا اليازجي، وبطريرك السريان الكاثوليك أغناطيوس يونان وبطريرك السريان الأرثوذوكس أغناطيوس افرام الثاني. التقى الوفد بوتين حاملاً الرسالة نفسها.

البدء بالمدارس
في الثاني من شباط من العام 2020 تاريخ انعقاد "مؤتمر الأخوة الإنسانية" في الإمارات، والذي شارك فيه عدد من البطاركة، وفي خطوة لافتة، توجه بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي إلى بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك في الربوة، ليصطحب معه في السيارة نفسها البطريرك العبسي في الطريق إلى المطار. وضع العبسي الراعي بصورة الموقف الفرنسي المتعاون. وبعد مشاركتهما في مؤتمر الإمارات توجه العبسي إلى باريس. في تلك الزيارة دعا الرئيس الفرنسي العبسي إلى مائدة العشاء في منزله. وكان لقاءً صريحاً ودوداً بين الرجلين. قدم العبسي توصيفاً عن الخطر الذي يهدد وجود المسيحيين في حال انهيار لبنان. وفي عملية التوصيف، أن الحصار الاقتصادي الذي يشهده لبنان جراء الاشتباك السياسي بين الولايات المتحدة وإيران وارتباط حزب الله بشكل مباشر في هذا الاشتباك، له آثار وخيمة على مجمل اللبنانيين.

ونقل العبسي طلب البطاركة من الدولة الفرنسية العمل على إنقاذ لبنان من هذا الصراع عبر مد يد العون إليه بشكل مباشر.

شكلت حركة البطاركة هذه بوابة إضافية لدخول فرنسا إلى لبنان، عبر المدارس الفرنكوفونية أولاً. فبدأت حركة فرنسية لافتة، عبر زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان إلى لبنان، في تموزالماضي، ليؤكد دعم فرنسا إدارات المدارس الفرنكوفونية، وعدد من العائلات التي عجزت عن تسديد الأقساط المدرسية، عبر مبالغ مالية خصصتها الإدارة الفرنسية، بهدف عدم إقفال المدارس أبوابها في هذه الأزمة.

بطبيعة الحال، فرنسا ليست جمعية خيرية. إلا أن دخولها من ذلك الباب حقق لها أكثر من هدف في آن. أولاً، هي دعمت المدارس المراسلة لمدارسها في لبنان، وحافظت على ما تبقى من حضور اللغة الفرنسية، التي بدأ تأثيرها ينحسر في الثقافة اللبنانية. كما أنها عادت إلى الساحة اللبنانية من البوابة الاجتماعية والثقافية، لتدخل المشهد السياسي من بابه العريض.

معركة ماكرون الانتخابية
بعد انفجار الرابع من آب، كان ماكرون أول الزائرين متفقداً. انقسم خطابه بين اجتماعي وسياسي. فكلامه مع المتضررين في الجميزة عن مساعدات فرنسية مباشرة إلى اللبنانيين عبر جميعات، وليس عبر القوى السياسية، لم يكن عن عبث. جال ماكرون بينهم كمن يقوم بجولة انتخابية، بينما بدا الترحيب الذي حظي به بين أهل المنطقة المتضررة كمن يتمسك بخيط أمل في ظلام كبير. ويقول المراقبون للحركة الفرنسية أن ماكرون حاضر جداً في المشهد اللبناني، من خلال متابعته الدقيقة لكل التطورات. وبناء على التقارير التي تحدثت عن فراغ كبير مستجد في الساحة المسيحية، نتيجة تراجع شعبية الأحزاب المسيحية، سيعمل ماكرون على متابعة لوائح المجتمع المدني التي ستتشكل لخوض الانتخابات النيابية المقبلة في مختلف المناطق. وإن كان من الصعب إحداث خرق على الساحتين الشيعية والسنية، إلا أن الساحة المسيحية تبدو مفتوحة لاختراق لا بأس به. وعليه، وضع ماكرون على جدول أعماله في زيارته الثانية مواعيد مع شخصيات من المجتمع المدني. يتصرف الفرنسي كأنه يدرس مجموعة من السير الذاتية ليختار منها الأفضل، لدعمه لاحقاً في الاستحقاقات المناسبة.

اختلاف مسيحي مسيحي
يبدو كل شيء حتى الساعة هو استجابة لطلب الدعم اللبناني من فرنسا. إلا أن الخطاب السياسي لماكرون خلق إشكالية مسيحية مسيحية. فخطابه تجاه حزب الله متمايز عن خطاب الأميركيين. هو أكثر ليونة في المقاربة. قالها بصراحة بالغة. حزب الله منتخب وأي تغيير يجب أن يحصل من الشعب اللبناني، وليس الوقت ملائماً للبحث في ملف السلاح أو تغيير النظام أو أي مواقف استراتيجية، لأن الأولوية هي للإصلاحات الداخلية. موقف ماكرون لم يستفز البطاركة الأربعة الذين التقوا به في باريس منذ حوالى العام. فموقف البطاركة الأربعة ليس متجانساً تماماً مع موقف بكركي، التي أعلنت وثيقة الحياد النشط. هذه الوثيقة التي ترى فيها فرنسا أيضاً تسرعاً، نظراً لأولويات البلاد الاقتصادية. يضيف المراقبون أن إحدى مؤشرات الفتور في العلاقة بين ماكرون وبكركي كان في امتناع الرئيس الفرنسي عن زيارة الصرح البطريركي، رغم أنه زار منطقة جاج شمالاً. وكي لا تبدو بكركي بعيدة عن المبادرة الفرنسية، كسر الراعي مقولة أن "بكركي تزار ولا تزور"، فتوجه إلى قصر الصنوبر للقاء ماكرون. ليست المعلومات عن اللقاء وفيرة، إلا أن ما رشح عنها يؤكد اختلافاً في المقاربات حول المشهد اللبناني. ينسحب هذا الاختلاف أيضاً على البطاركة الأربعة الآخرين، الذين يعتبرون أنفسهم أقرب إلى المبادرة الفرنسية بليونتها السياسية، وفعاليتها الاجتماعية. أما وثيقة الحياد الإيجابي لبكركي، فهم يرون فيها عقدة إضافية في المشهد اللبناني المعقد أصلاً.

وبالعودة إلى باريس عشية انعقاد لقاء ماكرون والبطاركة الأربعة منذ أكثر من عام، وما تضمنه اللقاء من طلب التدخل في لبنان والعراق. ها هو الرئيس الفرنسي يزور لبنان والعراق، فاتحاً صفحة جديدة لفرنسا في المنطقة، وعيونه شاخصة على انتخاباته الداخلية، كما هي شاخصة على الدور المسيحي في لبنان في الانتخابات المقبلة، لما يمكن أن تشكله من نفوذ فرنسي كان قوياً منذ زمن بعيد. فهل ينجح ماكرون باثبات فعالية ليونته السياسية بوجه التصلب الأميركي؟ لننتظر ونر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها