الجمعة 2020/09/04

آخر تحديث: 14:02 (بيروت)

شهر على جريمة بيروت: رائحة الدم والمال معاً

الجمعة 2020/09/04
شهر على جريمة بيروت: رائحة الدم والمال معاً
تحولت الجريمة إلى "فرصة" لتهذيب القتلة، توبيخهم، تحسين سلوكهم (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

في ليلة تفجير السان جورج نهار 14 شباط 2005، كان واضحاً أن مزاج العالم هو مطاردة القتلة ومعاقبتهم. كانت السياسات الدولية التي كتبت القرار 1559 على أهبة الاستعداد لملاقاة الأغلبية الساحقة من اللبنانيين المنتفضين، واعتبار جريمة اغتيال رفيق الحريري حدثاً لا يمكن التعايش معه أو إغفاله.

على هذا، كان ذاك المسار الدرامي والصدامي والبالغ الدموية الذي أفضى إلى نتائج غير مأمولة ولا متوقعة. فبعد كل تلك الصراعات التي خيضت لأكثر من 15 عاماً، صار لبنان كله يشبه حفرة تفجير السان جورج والخراب المحيط بها.

وكان الشعار: سياسة الإفلات من العقاب انتهت. لكن الواقع المرير والمديد كان أقوى وشديد القسوة، ولم يكن مرة إلا ملتوياً ودهليزياً. وانتهى الأمر بالقتلة أن عمموا تسلطهم وسياستهم على المنطقة بأسرها. وانسحب العالم يائساً من شؤوننا وأحوالنا.

الشعب السوري والشعب العراقي أكثر من عرف إلى أي مدى يمكن لنصْلِ الجريمة أن يتوغل فيهم ويمزق حياتهم. واللبنانيون الذين انهزموا واستسلموا بالتقسيط، "تجنباً للحرب الأهلية"، وجدوا أنفسهم في النهاية وحيدين في مواجهة الوحش، الذي استطاع أيضاً أن "يربي" وحوشاً صغيرة في كل طائفة. أنذال فاسدون يتلذذون برائحة الدم والمال معاً.

استوى لبنان على كابوسه: البلد الذي يعيش شبابه اليأسَ هو بلد ميت لا محالة.

في آخر شهقة لها معنى، كانت لحظة 17 تشرين 2019. لحظة منفردة غير قابلة للتمديد على ما يبدو. ولدت وماتت في أقل من شهر تقريباً. وإرثها بدأ بالتبدد سريعاً.

في الرابع من آب وقعت الجريمة الكبرى وروعت صورها العالم، ساطعة بفداحتها، حابسة للأنفاس، قاتلة على نحو "هيروشيمي" للروح لا للأعداد، للمدنية لا للأحجار والزجاج، للذاكرة لا لليوميات.. قاتلة للكينونة لا للأجساد، قاتلة لآخر براءة وآخر طموح. ثمة بيروت دُفنت، ولا ندري شيئاً عن تلك الـ"بيروت" الجديدة التي ستأتي. ومن غير المؤكد أن سكانها الذين نجوا سيكون لهم رأي في إنشاء هذه الـ"بيروت الجديدة". أو إن كانوا سيبقون فيها هم أنفسهم.

وقعت الجريمة. ومن الليلة الأولى، كان واضحاً أن العالم هذه المرة لن يطارد القتلة ولن يسمي أصلاً ما جرى "جريمة". كان التواطؤ اللغوي أولاً، فسُميت "حادثة" لا جريمة. السياسة المتبعة ستكون تغطية للجريمة وتحويلها إلى حدث مأسوي، وإلى فرصة للمواساة والعطف، وإغفال الفاعل.

العالم سيكون هذه المرة "جمعية خيرية" وحسب. سيترك المقترف يفلت من العقاب. بل ستوكل إليه مهمة التحقيق! مطلب "التحقيق الدولي" تم حذفه ودفنه سريعاً. تجربة "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" وقبلها لجان التحقيق الدولية، أدت إلى الكثير من الآلام والدموع والقليل من الحقيقة.. أدت إلى تجبّر أشرس للقاتل، وعجز مميت عن تكبيله أو كبحه.

هكذا، ورغم هولها و"فضائحيتها" وصعوبة احتمالها، باتت الجريمة في السياسة المحلية والدولية "فرصة" لتهذيب القتلة، توبيخهم، تحسين سلوكهم. والأفظع من ذلك، هو السعي المحموم لإقناع اللبنانيين بالتسليم للقضاء والقدر، وتشجيعهم على مسامحة الذين ارتكبوا سلسلة الجرائم طوال السنوات الماضية، وصولاً إلى تفجير العاصمة.

ما حدث في بيروت يوم 4 آب كان المآل الطبيعي والبديهي لسنوات من الانتهاك الممنهج، أمناً وسياسة واقتصاداً وأخلاقاً وحقوقاً. مسلسل هدم الدولة والمجتمع أتت خاتمته على شكل خراب مكلل بغيمة الفطر العملاقة.

ما بين أيدينا هو الركام. حطام بلد وحطام دولة. شعب ممزق وثورة مجهضة. والمفارقة السوداء والمريرة أن جهود الإنقاذ منصبة كلها على انتشال الذين تسببوا بالكارثة، إعادة تأهيلهم ومسامحتهم وتوكيلهم حكمنا مجدداً.

ستنتهي محاكمة الجريمة عند "عامل التلحيم" الغبي المستهتر.. وسنعود جميعاً إلى الحفرة، إلى الموقع صفر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها