الخميس 2020/09/17

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

مقاومتان في أيلول الافتراق الواحد

الخميس 2020/09/17
مقاومتان في أيلول الافتراق الواحد
أيلول 1982، كانت محاولة لتثبيت عدو واحد للبنانيين (Getty)
increase حجم الخط decrease

حلَّ أيلول جديد، واللبنانيون ما زالوا مقيمين على افتراق، وما بين أيلول 1982 وأيلول 2020، ما زالت الخطبُ متباعدة، وما زال جمعا المقاومتين اللبنانيتين مقيمين على اختلاف في الرؤية السياسية الشاملة، وفي الرأي السياسي الخاص.

16 أيلول المقاومة الوطنية
احتل الجيش الإسرائيلي العاصمة بيروت، فقاتله من دافع عنها وهي في حالة حصار، ثم استأنف المبادرون الطليعيون القتال من خلال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.

لقد مهَّد الحصار الطويل الذي دام لثلاثة شهور، الطريق أمام الولادة السريعة للمقاومة المنبثقة من تشكيلات الحركة الوطنية اللبنانية، وكان "الماركسيون" اللبنانيون في الطليعة، فأطلقوا النداء إلى القتال، وإلى الوحدة، وإلى طي صفحة الحرب الأهلية، ثم نزلوا إلى الشوارع لتنفيذ مضمون ندائهم، وكان لهم ما أرادوا من نتائج إيجابية تمثلت في خروج قوات الاحتلال من العاصمة. كان ذلك هو الانسحاب الإجباري الأوّل للمحتل، ثم تتالت الانسحابات حتى تمَّ تحرير الشطر الأوسع من الأرض المحتلة، وكان على الشطر الباقي أن ينتظر حلول العام 2000، لينال حريته هو الآخر.

مقاومة وطنية إشكالية
حملت جبهة المقاومة الوطنية الوليدة، إشكالية الحركة الوطنية التي ولدت من رحمها. كانت "الأم" مقيمة على ضفة انشقاق أهلي في البنية اللبنانية، لذلك كانت "البنت" بنتاً معترفاً بها من ضفة أهلية دون أخرى، وهي إذا اكتسبت الاحتضان المتزايد ضمن بيئتها الأصلية، لم تكن موضع ترحيب في البيئة الأهلية المقابلة التي ورثت الشقاق عن التاريخ السابق للإحتلال، ثم استمرت في حمله بعده، وعندما انصرف من انصرف من المقاومين الوطنيين الجدد، إلى مقارعة الاحتلال الإسرائيلي دون غيره، انصرف مقاتلو الفريق اللبناني الخصم، إلى الانخراط في معارك أهلية داخلية في الجبل، ولم يجدوا ضيراً في الاستكانة في ظل الاحتلال، كذلك لم يترددوا في التعاون معه.

برزت في السنوات الأولى من عمر الاحتلال الإشكالية الإنقسامية في وجهتين متضادتين، إذ في حين طوت الحركة الوطنية الصفة الاقتتالية الأهلية، قولاً وعملاً، أمعنت القوى التي تشكلت في امتداد "الجبهة اللبنانية" في سلوكها الافتراقي، فحاولت بسط هيمنتها على رقعة جغرافية لبنانية واسعة، في الجبل والجنوب والبقاع الغربي وراشيا، مستفيدة من ضغط آلة الاحتلال الإسرائيلي، ومن الاختلال الظرفي في موازين القوى، بين الأطراف اللبنانية المتصارعة.

بالنظر إلى ذلك، كانت لحظة الاحتلال إشارة إلى زمنين ووجهتين، وقد انطوى ذلك، في الزمن والوجهة، على رهانين، الأول هو رهان المقاومة الوطنية اللبنانية على قدرتها على طرد الاحتلال، فكانت "العين التي قاومت المخرز"، حتى فقأت عين صاحب المخرز، والثاني، كان رهان القوات اللبنانية ومن ورائها النظام اللبناني، الذي رأى في الاحتلال فرصة تاريخية لإعادة هندسة هيمنته، ولإعادة تثبيتها على قواعد سلطوية أشد رسوخاً.. ولم يطل الزمن حتى شهدت تطوراته لنجاح رهان وفشل رهان آخر.

أيلول المقاومة اللبنانية
لقد اختلف أيلول المقاومة اللبنانية عن أيلول جبهة المقاومة الوطنية، وطرح الاختلاف نقطة البدء لدى كل من المقاومتين. لقد بدأت "جمول" انطلاقتها حين تراءى للوسط السياسي أن العمل الوطني اللبناني، في صيغته اليسارية خاصة، قد انطوى، وهو في طريقه إلى التلاشي والزوال. أما ما كان يسمَّى المشروع الكتائبي فقد بدأ حين تراءى لذات الوسط السياسي، أن المشروع قد بلغ ذروة انتصاره مع وصول قائده بشير الجميل إلى سُدَّة رئاسة الجمهورية. اللوحة كانت مختلطة ومتداخلة، قوة لبنانية تنطلق من لحظة انكسارها لتعيد بناء عناصر نجاحها واشتداد عودها، وقوة لبنانية تعود القهقرى، من لحظة "فوزها" الأهم، بما اعتبرته نقطة الحسم القصوى في مسيرتها السياسية. باتت المعادلة كالآتي: سقطت بيروت، فنهضت مقاومة كان خطها المستقبل. اغتيل بشير الجميل، فتراجعت مقاومة كان خطها فقدان ماضي تفوق "لحظوي" لن يستعاد.

افتراق اللغة
بعد ما يقرب من أربعة عقود على تاريخ احتلال بيروت، ما زالت اللغة مقيمة على افتراق، وهذا الأخير يجد أسبابه في وضع سياسي له عوامله المتعددة، لكن المسؤولية عن إدامة الفرقة لا تتساوى أقساطها بين طرف سياسي وآخر. وللبيان، لقد بادر أكثر من طرف سياسي لبناني من مكونات جبهة المقاومة الوطنية، إلى مراجعة أسس خطه السياسي، وإلى تقديم اعتذار عن أدائه في محطات مفصلية لبنانية، مما كان من شأنه أن يفتح السبيل أمام مراجعة أخرى يبادر إليها أطراف من مكونات المقاومة اللبنانية. لكن ذلك لم يحصل، وظل الاعتذار عزفاً منفرداً، ثم جاءت التطورات التي حملها زمن ما بعد الطائف، لتعيد استحضار اللغة ذاتها التي كانت معتمدة من أيام كان المشروع "مشروعاً كتائبياً". لغة المصالحة مع الذات التي قاربها يساريون لبنانيون، لم تعتمد من قبل القوات اللبنانية مثلاً، فهذه ما زالت تؤرخ لمقاومتها بدءاً من تاريخ انشقاقي سابق على العام 1982، وما زالت تذكر بطولاتها ضد العدو الذي كان في مواجهتها عام 1975، وهذا مما لا نجد له صدى، أو شبيهاً، في الأدبيات السياسية لمن كانوا حركة وطنية لبنانية، ثم صاروا جبهة مقاومة وطنية، ثم انفرط عقدهم إلى حبات أحزابهم الأولى.

المصالحة مع الذات
لم يضع اتفاق الطائف الأسس الكفيلة لتجاوز الانقسام الطائفي، بل إن تنحية النصوص، واعتمادها في "النفوس"، عاد فأفرز صيغة افتراق اتسعت شقة تباعدها عاماً بعد آخر. تشويه نص "المصالحة الوطنية" أنتج حرباً أهلية باردة، وهذه فاقمتها نسخة المقاومة الإسلامية، التي وضعت جانباً المرتكزات الجامعة لنص جبهة المقاومة الوطنية، ثم أطاحت تباعاً بالمقدمات التي تضمنها اتفاق الطائف، ثم زحفت على "الدولة"، وعلى الصيغ التوافقية والعرفية والميثاقية، فتضمنت منها ما أتاحه لها فائق قوتها، بالاستناد إلى "لُحمة" قاعدتها المذهبية، وبالاستقواء بالدعم الخارجي، الذي كان سورياً إيرانياً، ثم صار إيرانياً غالباً، بعد أن خرج النظام السوري من وضع المتبوع إلى وضع التابع، إثر اندلاع الحريق الأهلي الذي أتى على عناصر لحمة سوريا الداخلية.

لقد ابتعدت المصالحة الآن أكثر، ففي زمن الخلاف على كل شيء، يعود كل طرف فئوي إلى "حصنه" الأصلي، وفي تقابل الحصون، وفي انغلاقها وتكوّرها على ذواتها، ترتفع لغة التوصيف السياسي، التي تجعل كل خلاف مؤامرة، وكل صوت مختلف عمالة، وكل محاولة تنحو منحى استنبات مشتركات عامة، عبارة عن حرث في بحر الطائفيات العقيمة.

أيلول 1982، كانت محاولة لتثبيت عدو واحد للبنانيين، أيلول 2020، عاد اللبنانيون "إخوة أعداء" وهكذا..

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها