السبت 2020/08/29

آخر تحديث: 14:22 (بيروت)

السلاح الأهلي: وعي الجماعة واستنفار الجماعات

السبت 2020/08/29
السلاح الأهلي: وعي الجماعة واستنفار الجماعات
الهيمنة الشيعية لم تصل إلى مبتغاها بعد (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

لم يعد ذكر السلاح الأهلي ذكراً تعميمياً، بل هو في الراهن اللبناني، ذكر تحديد وتعيين، فحين يقال "السلاح"، تذهب النظرة والفكرة إلى سلاح حزب الله، أي إلى الطرف الوحيد الذي ما زال يمتلك شرعية اقتناء السلاح، وشرعية استخدامه، في ما هو متفقٌ عليه أنه شرعي، وفي ما هو مختلف عليه مما هو غير شرعي، وهذا الأخير هو كل ما يقدم عليه "الحزب"، ويتجاوز المهمة الوطنية الأصلّية للسلاح الذي كان وسيلة مقاومة ضد الاحتلال، فصار، تراكمياً وعلى خط تصاعدي، سلاحاً فئوياً يوجه خطابه إلى أبناء جلدته في الداخل، ويتلقى خطب ورسائل أبناء جلدته الذين في الخارج، من دون أن يعتني عناية وطنية جادة، بكل من هم خارج إطار الجماعة الخاصة التي انتصر السلاح بجمهورها، ثم باتت تستنصر، بتفوقها به على قريناتها من الجماعات الأخرى. وللتاريخ، ومن الواقع، فإن السلاح الجماعتي الذي تغلب عليه الصفة الأهلية، ليس سلاح حزب الله فقط، بل هو سلاح الفئات اللبنانية الأخرى التي كان لكل جماعة منها سلاحها، وكان لكل استخدام لهذا السلاح شرعيته المستمدة من رضى الجماعة، ومن قبولها، ومن طلب دوره "الدفاعي" أو الهجومي، الذي كانت تمليه جملة التطورات الداخلية. لم ينجُ من وصف السلاح الفئوي السلاح الذي كان للحركة الوطنية اللبنانية أيضاً، فهذه الحركة جرى دفعها، وبقوة الانقسام الأهلي إلى خانة "أسلمة"، ليجري ملء هذه الخانة لاحقاً بكل حمولة اللا لبنانية، واللاوطنية، والسعي إلى تغيير يغيِّر وجه لبنان الذي ارتضته المجموعات الروحية والأهلية. في هذا السياق، أو من هذا التعريف لـ"الأهلية"، يمكن القول إن سلاح حزب الله، هو مسمّى "الفرد باسم الجمع"، فهو شريك في النزوع الأهلي، وفي تغذيته، مع نظرائه من أبناء ذات السلاح الخاص، وهو شريك أيضاً مع سلاح الحركة الوطنية اللبنانية الذي كان عمومياً، ثم استولت الخصوصية على الشطر الأوسع من خصوصيته، لكنه، أي سلاح الحزب، ظلَّ الوحيد لبنانياً، الذي انتزعت له شرعية عامة لفترة، بقوة سيطرة الوصاية السورية، وبقوة القضية الوطنية التي كان يستجيب لتحدياتها، قضية التحرير. وهذه القوة المعنوية والرمزية، هي التي انتزعت قبول ورضى وصمت الصفوف الواسعة من أبناء الجماعات اللبنانية. كان مشروعاً تحريرياً، فابتكر الجميع وسائل اتصال به، وحدَّدوا بعناية مسافات الاقتراب أو الابتعاد منه، ثم صار التحرير واقعاً، فعادت كل جماعة إلى صفوف دراسة قضاياها وهواجسها، فدقَّقت في المنهج الدراسي الماضي، ثم أضافت إليه من وقائع أيامها، ومن جعبة نظراتها إلى ما هو آت إلى لبنان من أيام.

أسلحة الذات
قد يتبادر إلى الذهن أن سلاح الجماعة هو السلاح الحربي فقط، وفي هذا البتر إفقار لترسانة الأسلحة التي تمتلكها كل جماعة. وقد يكتفي البعض باعتبار الحرب الأهلية مجرّد عمليات عسكرية، وفي الاعتبار هذا أيضاً، اختزال لأنماط "المعارك" التي تدور بين الفئويات المتساكنة على قلق ونفور شديدين.

ما هو أقرب إلى الواقع، هو القول بأن السلاح الأهلي الأهم هو سلاح وعي الذات الفئوية لذاتها، فهذه تقرأ في كتاب هويتها الفريدة، وتنطق بلغتها الموغلة في التاريخ، وتعلي شأن ثقافتها الاستعلائية المتفوقة، وتمجِّد تاريخها الحافل بالأبطال والبطولات، وترفع رؤيتها لمستقبلها إلى مدى رؤيوي، فيصير المصير شأناً إلهياً، ويصير المسير إلى الالتحاق بالشأن هذا، عروجاً تطهرياً لفئةٍ خاصة، بعيداً من كل الدنس المختلط الذي ترسف فيه كل الفئات. باختصار، أسطرة الفئة لذاتها، واحد من أهم أسلحتها الأهلية، وعلى ذلك، يحفل تاريخ المجموعات الفئوية بمنوعات من الأساطير، التي تصير منجاة للنفوس المحاصرة في أيام اشتداد الأعاصير الأهلية، المعادية، أو المنافسة، أو التي تقيم على خصام مكتوم.

تراتبية الذوات الأهلية
نستبق القول التراتبي بسؤال ضروري: هل تنجو فئة لبنانية من مأزق وعيها المأزوم لذاتها؟ كل التاريخ السكاني اللبناني يجيب بالنفي، ونردف بسؤال ضروري ثانٍ: هل تستوي مسؤولية الفئات عن التردي في الأحوال الجمعية في كلِّ ظرف وفي كل زمان؟ ذات التاريخ يقدم إجابة بالنفي أيضاً. بناءً عليه، أية تراتبية فئوية عرفتها المجموعات اللبنانية؟ ومن تقدم على من في إلحاق الضرر بالبنية الكيانية؟

نكتفي بالذكرِ، من دون الذهاب إلى التعليل والتفسير، فنبادر إلى إعطاء المارونية السياسية دور المسؤول الأول عن هزِّ بنيان السياق اللبناني في محطتين أساسيتين من تاريخ لبنان الاستقلالي، الأولى عام 1958، والثانية عام 1975. سلوك "الهزّ" هذا، فتح كل البناء الاستقلالي على كل منوعات الخراب، مما نشهد بعضاً من نتائجه حتى اللحظة الحالية، من المأزق العام الداخلي الذي يشدّ على خناق الكيان.

وعلى طريق المارونية، وتشبهاً بها، تقوم الشيعية السياسية، وبقيادة واضحة من قبل حزبها الأول، حزب الله، بخلخلة الأسس الجمعية اللبنانية، طلباً لكلمة "الأمر لي"، وسعياً إلى الفوز بالحصة الكبرى من "جبنة" الانتظام العام.
ومما تجدر الإشارة إليه، ومما يدعو إلى الانتباه الدائم، هو أن المقعدين اللذين توفرا للفئتين، ساهم في صناعتهما الخارج، بمقدار ما أمَّن لهما الداخل الأسس التي خاطبت الخارج، واستقوت به، ونجحت في توظيف دعمه الملموس.

ما النتائج
لقد فصلت عقود زمنية صراعية بين الهيمنة المارونية التي لم تعمِّر طويلاً، وبين السعي إلى الهيمنة الشيعية، التي لم تصل إلى مبتغاها بعد، وقد لا تصل، والأرجح أنها لن تصل. يعود ذلك إلى أسبابٍ مجتمعية وثقافية واقتصادية وتاريخية تكوينية، تفصل بين الهيمنة والسيطرة، فما كل سيطرة هيمنة. وعليه، فإن النتيجة التي ظلت شاهدةً على عقم الدمج بين الواقع وتخيل السيطرة عليه، أوصلت حتى تاريخه، إلى خرابٍ لبنانيٍّ عميم. هذه الخلاصة الدرس، لم يأخذ بها أصحاب الطموحات الموزعة على الهيمنة والسيطرة والإخضاع، فلقد كتب الواقع أن لبنان الواحد، لن يخضع لهيمنة طائفة واحدة، وسيعود إلى نشأته البنيوية كـ"لبنانات"، إذا ما أصرَّت فئة على فرض سيطرتها عليه.

لقد أفشل النظام، لبنان المشروع، ولم تقدم الخلطة السلطوية الهجينة دليلاً على حكمة سياسية، ولم تستفد من تثمير إنجاز أتى من الداخل، ولا دعم أتى من الخارج، تاريخ هذه الخلطة، هو تاريخ التفريط بالفرص، وبالمقدرات الرسمية والأهلية، لذلك لا شيء يدعو راهناً، إلى الاستبشار باستفاقة ما، قبل موت هذه الخلطة، التي "تدعو إلى أندلس إن حوصرت حلب...".

الوضع اللبناني مفتوح، والاحتمالات السيئة شتّى، والخروج على أحكام تفريط وجهل التوليفة الحاكمة، لن يكون إلا بعمل استثنائي، من خارج السياق العادي... لعله عمل "تحريري" آخر، ينهض لمهماته "جمع" من خارج كل السياق السياسي، الذي فشل، والذي أفشل سالكوه كلَّ سياقِ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها