الأربعاء 2020/08/26

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

لبنان في حقبته الشيعية

الأربعاء 2020/08/26
لبنان في حقبته الشيعية
زخم اسبارطي قتالي ومتعصب ومدجج بالسلاح والإرادة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

ابتدأ "لبنان الشيعي" مع تفجير موكب رفيق الحريري، وحملة الاغتيالات المتناسلة منذ منتصف شباط 2005، "مشفوعة" بتفجيرات ليلية متواترة آنذاك، ومتوّجة بغزوة أيار 2008، ومرفقة بعراضات القمصان السود ثم بجيش الموتوسيكلات، و"مترجمة" بخطابات الإصبع الغليظة المهددة، ومدعومة بمئتي ألف صاروخ،  وسلسلة انتصارات لا تصريف لها ولا تعريف خارج المقابر، إلا بهذا الدرك الذي وقعنا فيه.

ولبنان الشيعي هذا، الذي تأسس بالاستيلاء والغلبة وفائض العنف، أتى انقلاباً على الجمهورية الثانية وعلى إرث الجمهورية الأولى أيضاً. ويمكن اختزال هذا رمزياً في تلك المواجهة الوجيزة التي حدثت بين جمهور متنوع ومدني وسلمي في وسط بيروت يلهج بأفكار ومطالب وشعارات تستبطنها مجتمعات المواطنة والحقوق والديموقراطية والدولة الحديثة والحريات، وجمهور آخر هو كتلة من الذكور العنيفين والموتورين لا تستبطن سوى سلاحها وصرختها الراعدة: شيعة، شيعة.. بلا زيادة أو نقصان.

كانت تلك آخر المواجهات المبتدئة في ربيع 2005 جمهوراً مليونياً لا قيمة له أمام الزمر المسلحة، أو هي كانت خاتمة كئيبة أشبه بلفظ الأنفاس وانطفاء الروح، التي سبقت النهاية الأبوكاليبسية في انفجار بيروت.

ولبنان الكبير الذي تقدمه "الموارنة" ما بعد نهاية المتصرفية، وارتضاه السنّة، وكان الدروز من أهله وصلبه، فيما أخذ الشيعة فيه موقعاً خلفياً وهامشياً رغم أنهم لأول مرة بتاريخهم المديد اكتسبوا في هذا الكيان الوليد حريتهم الدينية والاجتماعية والطقوسية والثقافية.. إنما قام على هذا "الاعتراف"، كما على تعريفٍ مركّب يميزه عن الدول المجاورة إلى حد التناقض. ورغم أن القيادة المارونية (إن صح التعبير) ارتكبت أخطاء تاريخية فادحة، ومنها التأخّر المتعمد في إرساء دولة المساواة، إلا أن كل ما يمكن مدحه في لبنان، عمراناً وثقافة واجتماعاً ونمط حياة كان بفضل تلك الخيارات المسيحية السياسية أولاً، التي قطفت ثمارها الجماعات الأخرى أيضاً، إن في الترقي الاجتماعي والاقتصادي أو في التقدم السياسي والثقافي. فالصيغة اللبنانية هذه، إنما كانت باستمرار مفتوحة على المنازعة السياسية بمعناها "الطبيعي"، للجماعات والطوائف والأفراد، كوجه من وجوه الديموقراطية اللبنانية.

وإذ أتت الحروب اللبنانية و"الملبننة"، باقتراف أهلي وإقليمي ودولي، على تلك التجربة المسماة "الجمهورية الأولى"، إلا أن اتفاق الطائف الذي دشن بداية "الجمهورية الثانية" لم يغيّر لا تعريفاً ولا أيديولوجياً بالهوية التي قام عليها لبنان الكبير عام 1920، وإن منح "السنّة" موقعاً متصدراً في القيادة، التي مثّلها رفيق الحريري ومشروعه. فالعقيدة السياسية للحريري ونظرته إلى لبنان كانت أشبه بـ"إعادة إعمار لبنان المسيحي" بإرادة المسلمين ورضاهم. بل أنه جمح على عكس التقليد العروبي الوحدوي (1958، 1969، 1975)، وتحوّل إلى طالب استقلال في حلف شبه معلن مع الكنيسة والفاتيكان، وبهما استقوى ولهما لجأ.

والحق أنه لم تكن المعضلة المسيحية في "الطائف" بل في انتهاكه على نحو منهجي بما يؤذي المسيحيين أو يعزز مخاوفهم ويقوي "تروما" موت الجمهورية الأولى.

كان قرار تفجير الحريري إعلاناً عنيفاً لابتداء مشروع شرق أوسطي مضاد، إيراني المصدر، خميني العقيدة، بالغ القسوة والتصميم على تصوير العالم حرباً مقدسة بلا نهاية تقريباً. وفي خضم العقود المنصرمة، كان العمل الأيديولوجي والتعبوي والتثقيفي وحتى الإعاشي المواكب للمحنة الدموية في معجن الحروب الأهلية وتحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، قد أحال الشيعة اللبنانيين إلى "جالية" إيرانية الولاء والسلاح والمال والوجدان.

ومن هذا التاريخ، خرج الشيعة بعد العام 2005، في مسيرة المواجهات مع سائر الطوائف وفي الحرب السورية والعراقية واليمنية، كما في حرب تموز 2006، بزخم اسبارطي قتالي ومتعصب ومدجج بالسلاح والإرادة لتثبيت الغلبة والقوة، ثأراً مختمراً منذ مئات السنين، ومضمخاً بتهويمات دينية مأسوية ومضنية تتحرق إلى مشاهد القيامة المهدوية.   

إزاء كل هذا، اختارت الطوائف الأخرى - كل على طريقتها- سبيلها في "معايشة" هذا الجبروت ومهادنته واتقاء شروره وصون رأسها وجسمها ومصالحها، فأسلمت مقاليد الدولة وسيادتها واتبعت التقية أو ارتضت "الذمّية" أو اعترضت لفظاً ولغواً بعيداً عن الخطوط الحمراء. وإذ منحت أصحاب فائض القوة سلطة تقرير المصير والسيادة والسياسة، انصرفت إلى تعويض خسارتها للكيان الجامع وللصيغة الوطنية بتأمين "رزقها" فساداً ولصوصية ونهباً وتحاصصاً، وتأمين وجودها بتعزيز طائفيتها ومذهبيتها ولحمتها العصبية. ولما سادت القناعة أن "ليست هذه دولتنا"، استسهلت الجماعات اليائسة والخائبة استباحة مقدرات هذه الدولة وماليتها وإداراتها وجباياتها، تحت عين المتسيّد المرتضي لهكذا رشوة ليست من كيسه، والمنشغل عن هذا الـ"لبنان" الصغير والفاسد والتركة الاستعمارية البائدة، بحروب سرية وعلنية تمتد من فنزويلا إلى أفغانستان من دون حدود أو جغرافيا.. التي من أولى شروطها استحالة الدولة في لبنان.

والمصيبة التي أولى ضحاياها هم الشيعة أنفسهم، أن لبنان بقيادة الموارنة كان عمراناً مختلاً أفضى إلى تصدعه، ولبنان بقيادة السنة كان إعادة إعمار مفخخاً باحتلالين انتهى بتفجيره، أما لبنان الشيعي فلا يقدم ولا يقترح أياً من مفردات العمران. فالعواصم الأربع التي أعلن الحرس الثوري سيطرته عليها تعتاش الآن على "المساعدات الإنسانية" التي يرسلها الغرب الكافر!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها