الأحد 2020/08/02

آخر تحديث: 20:31 (بيروت)

الرئيس الذي تقاعد حين صار رئيساً

الأحد 2020/08/02
الرئيس الذي تقاعد حين صار رئيساً
أتته الرئاسة كإلهام فيما هو يتقلد سيف تخرّجه من المدرسة الحربية من الرئيس فؤاد شهاب (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease
بينما الرئيس ميشال عون يقول إنه سيسير بين الألغام ويحفر الصخر لإنقاذ لبنان الجريح، كان من الصعب على المخيلة عدم تصور المشهد بحرفيته: الرئيس يحمل فآساً على كتفه ويقفز برشاقة بين الألغام، محطماً ما يعترضه من صخور بينه وبين لبنان (الخارطة إياها بوجه يستغيث وساعدين ممدودتين صوب الجنرال تناشدانه).

وهذا خيال مبرر، إذ يقع كتبة الخطابات الرئاسية في الركاكة المضحكة حين يلجأون إلى مثل هذه التشابيه المذهلة في تناقضها مع الواقع، ومع الصورة الحقيقية.


ليست مسألة سن، وإن كان على الكاتب إن يراعي مثل هذه الحساسية الفائقة في عالم تحكمه، لحسن الحظ، وسائل التواصل الاجتماعي. هو المقام الذي لم ينتبه إليه الكاتب. الجنرال رئيس جمهورية. وليس جندياً مغواراً يافعاً يلتهم الأفاعي ويقفز في السهول وعلى الجبال وفي الوديان في سبيل لبنان. ليس رامبو. إنه رئيس منذ بضعة سنوات وقد دفع مناصروه، وخصومه، وبلده، الكثير الكثير في سبيل تحقيق طموحه الشخصي، الذي يقال إنه أتاه كإلهام في أول مفرق من الزمن، في شهر آب، حينما تسلم السيف من الرئيس فؤاد شهاب، ورأى نفسه في كرسيه، موزعاً السيوف والنجوم، صانعاً التاريخ.

لكن التاريخ يصنع بطرق أخرى، ليس منها رقص القائد بين الألغام. ومنها، مثلاً، أن يصارح الرئيس شعبه لمرة واحدة فقط بأنه بعد تحقيق حلمه، عجز عن انقاذ البلد، الذي إن كان لا بد من تشبيه ركيك من النبع ذاته، فهو ليس جريحاً، بل يلفظ أنفاسه.

أن يصارح الرئيس اللبنانيين بأن ما بيده حيلة، لا أن يخصص خطابه لتكرار ما يردده المواطن العادي عن الفساد والمحسوبيات، وعن اتهام خصومه من دون أن يسميهم. كان عليه، وهو الرئيس، ألا يلقي اللوم على الأشباح المجهولة التي لا يعرف أحد ماهيتها والتي تخنق البلد وتمضي به إلى نهايته، بل يقول إنه وتياره السياسي ركن أساسي في مجمع الأشباح هذا، وإنه إذا كان يتحمل جزءاً من مسؤولية ما آل إليه الحال قبل أن يذهب إلى بعبدا، فإنه الآن، أخلاقياً، يتحمل المسؤولية كاملة.

عليه أن يشرح أنه إذا كان عاجزاً عن إنقاذ هذا المركب، فإنه سيكون أول المغادرين، وإن كان الربّان. وكما نكث بوعده أول مرة وترك المركب حقناً لدماء اللبنانيين، كما قال في حينه، فليغادر هذه المرة احتجاجاً على الأقل. يغادر درءاً لما سيحفظ التاريخ عنه، بأن عهده الثاني انتهى أسوأ حتى من عهده الأول، وكان واحداً من أسوأ العهود إن لم يكن أسوأها على الإطلاق.

ليس ذنبه؟ لماذا يبقى إذا وهو يعلم أنه سيحمل عار الذنب كله برضاه أو بعكسه؟ لأن الاستسلام ليس له مكان في مسيرته كما قال في الخطاب نفسه. لماذا لا يستسلم؟ القادة الحقيقيون يستسلمون حين لا يرون أن خساراتهم ستكون أشد فظاعة إن لم يستسلموا في الوقت المناسب. وقد استسلم مرة من قبل، بغض النظر عن رأي كاتب الخطاب في مفهوم الاستسلام. ليستسلم ويذهب إلى تقاعد مريح، أو إلى متابعة نضاله من موقعه كزعيم طائفي آخر يقود شبكة أخرى من مصالح وغنائم وتحاصص ومناصرين محددي الهوية والمرجعية والدين، وحين يغرق المركب، يكون مسؤولا عن انقاذ نفسه وجماعته فقط. وليترك الباقون للباقين.

لكن الكلمات أعلاه ركيكة بدورها. فالرئيس لن يغادر ولن يصارح شعبه ولن يتحمل المسؤولية، بل سيرميها على غيره. وكما غيره، لن يترقي إلى مستوى اللحظة. وكما غيره، سيجلس ويتفرج على الخراب الكبير، وينزل نفسه عمن كان السبب. وإلى أن ينتهي هذا العهد، سيظل زعيماً أقوى لتياره. وسيظل على تقاعده الذي بدأه يوم الوصول إلى بعبدا وتحقيق وعده لنفسه، فكان الرئيس الوحيد الذي تقاعد حين صار رئيساً، بعكس منطق المنصب نفسه.

وبينما البلد يستسلم تماماً ليأسه، ليس للجنرال في المقابل إلا الإنشاء الركيك. تحطيم الصخور، العبور بين الألغام، انقاذ لبنان الجريح. الزينة المركونة لاستخدامها، هي نفسها في الاحتفالات المدرسية والمناسبات الوطنية والخطابات الجوفاء. لماذا القلق؟ الجنرال هانئ الآن والحياة طيبة وخضراء  كما تبدو من نوافذ قصر بعبدا. ولديه كرسي لن يجد أفضل منها. أما اللبنانيون، فليجلسوا حيث شاؤوا، أو أجبروا، وليتركوه لشأنه. فقد عمل العمر كله لأجل هذا. عاش ليتقاعد رئيساً، دعوه يتقاعد.         

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها