الخميس 2020/04/02

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

"المختارة": دار المعونة بالنكبات ودار الشفاء بمواجهة الوباء

الخميس 2020/04/02
"المختارة": دار المعونة بالنكبات ودار الشفاء بمواجهة الوباء
تعمل المختارة على توفير الخدمات والمساعدات للناس المحجورة في منازلها (Getty)
increase حجم الخط decrease

من مرويات القرى الجبلية والشوفية التي تتناقلها الأجيال، وتعود لتحتل صدارة جلسات السمر في الحجر المنزلي حالياً بفعل أزمة كورونا، حكايا أهل الجبل مع نكبات الحروب وأزمات الطبيعة. تعود الروايات إلى ما قبل تأسيس كمال جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي، وما بعده. فـ"المختارة" مثّلت الإقطاع الذي يرعى العوام في الأزمات، وفق ما تستذكره الألسن هذه الأيام. تستعيد الناس حكايا المعمّرين، منذ بدأ وليد جنبلاط يحذّر من الجوع ويدعو للعودة إلى الأرض زراعة وإنتاجاً. هو المهجوس بالتاريخ، يندفع بنظرته التشاؤمية إلى احتساب كل ما هو كارثي، متطبعاً بعادات الدار التاريخية، التي كانت تتحسب دوماً للنوائب.

ما بعد 17 تشرين
بعد اندلاع ثورة 17 تشرين، عرف جنبلاط أن لبنان أمام مرحلة جديدة. أقر بفشل الأطر السياسية التقليدية المختلفة، وفضّل التراجع لإفساح المجال أمام القوى الجديدة الشابة، المطالبة بالتغيير. تراجع إلى بيئته، عاملاً في مجال الإغاثة والتموين، بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية، مبتعداً نوعاً ما عن السياسة. هو العالِم بأن كل القوى السياسية أصيبت بضربات قاتلة من جراء الانفجار الشعبي اللبناني.

جاءت أزمة كورونا، فكانت أشبه فرصة سعت من خلالها كل القوى السياسية والحزبية إلى إعادة تجديد نفسها تحت شعار مواجهة الوباء. وكما أشرنا في تقارير سابقة إلى دور كل من حزب الله، وتيار المستقبل، والتيار الوطني الحرّ في التعاطي مع هذا الوباء وانتشاره، يبدو أن دور الحزب التقدمي الاشتراكي ووليد جنبلاط، لا يقل فاعلية عن تلك الأحزاب والتيارات إن في السياسة العامة أو في الإجراءات الصحية أو المساعدة الاجتماعية.

والمعروف أن جنبلاط دقّ ناقوس خطر المجاعة باكراً، واستشعر خطر كورونا، كمن استفاقت لديه من الذاكرة أطياف أزمات مشابهة وسابقة، وإن لم تصل إلى درجة خطورة هذا الوباء، وتأثيراته العالمية. لا تحضر بالطبع ذاكرة المجاعة واجتياح أسراب الجراد (1916) في ذاكرة جنبلاط، لكن تداعياتها حاضرة بالتأكيد، كما بالنسبة إلى دور دارة المختارة، التي اعتادت التموين استباقاً لأي خطر.

العودة إلى الأرض
في مطالع القرن الماضي، لم يجتح الجراد كل المناطق اللبنانية، وتركزت آثاره الكارثية على بيروت، فيما كان الدروز يتموّنون بالقمح من حوران، وأراضي آل جنبلاط التي تُعرف بأنها "تمتد من مرمى الثلج لفقش الموج"، في إشارة إلى مساحاتها الشاسعة من الجبل إلى البحر، ساهمت في نجاة الكثير من عواقب أسراب الجراد، وتمكنت المختارة من إعانة الكثير من اللبنانيين في مناطق مختلفة، ولا سيما في بيروت.

مستنداً على هذه الرواية، أخذ جنبلاط ينفذ إجراءاته الوقائية والاستباقية منذ أشهر، ناصحاً بالعودة إلى الأرض، بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان. زاد منسوب مخاوفه مع انتشار وباء كورونا. فبدأ بالتدابير الباكرة لمواجهة الوباء. عمل على تعقيم محيط منزله في بيروت، وزّع آلات تعقيم على السجون وبعض المؤسسات الرسمية، أجرى حملات تعقيم في الجبل، على اختلاف تلاوينه الدرزية، المسيحية، والإسلامية، في المساجد والكنائس والأديرة. في هذه الأزمات، لا يقف جنبلاط عند حدود الشوف وعاليه، تماماً كما كان دور المختارة التاريخي، فترده رسائل الشكر من قرى وبلدات كسروانية، على مواقفه والمساعدات التي أرسلها في مواجهة كورونا، كالرسالة التي تلقاها من بلدية حراجل في جرود كسروان مثلاً.

سارع جنبلاط إلى إنشاء مراكز للحجر الصحي، وتعزيز مستشفى عين وزين، قبل التبرّع لمستشفى رفيق الحريري الحكومي. استمر نشاطه في إنشاء مركز للحجر الصحي في برجا، وآخر في الناعمة، وثالث في الدامور. وهو يبحث في كيفية توفير الخدمات والمساعدات للناس المحجورة في منازلها، وفقدت أعمالها ومتعثرة عن دفع إيجارات مسكنها. يقوم بهذا العمل، الذي لا مجال للتفريق فيه، لأن ما يجري يهدد البشرية جمعاء. هنا لا حسابات في السياسة.

تجارب تاريخية 
يستعيد الأدوار التاريخية للمختارة في حقبات مماثلة، كالحال سنة 1939، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، والتي يتذكرها مثلاً عزت صافي الذي كان عمره يومها 12 سنة، إبن بلدة باتر، آخر قرى الشوف لناحية الجنوب، والقريبة من المختارة. يتذكر تداعيات الحرب، وكيف فقدت كل المواد الغذائية خلال شهر، فعانت العائلات القروية، من شح المواد الأساسية. لم يكن هؤلاء يمتلكون غير قنديل الكاز ورغيف الخبز. وقعت المجاعة، فيما الميسورون اتجهوا إلى جزين التي كانت أشبه بصيدلية لأهالي الشوف الأعلى، ومكان التحوج. ومن لم يتمكن من توفير قوته، كانت دار المختارة تتولى إعانته.

يتكرر المشهد في حرب 1948، وتداعيات النكبة الفلسطينية، وقفت المختارة موقفاً مشابهاً. وهذا ما تكرر في زلزال العام 1956، والذي أدى إلى تقطيع أوصال المناطق في الجبل، فعمل كمال جنبلاط على إنشاء مراكز تموين في مناطق شوفية متعددة، من إقليم الخروب إلى سبلين، لتوفير المساعدات للقرى المنكوبة. الدور نفسه لعبته المختارة في ثورة الـ 1958، حين أطلق على الطابق السفلي من الدار، تسمية "الحاصل"، والتي تخزّن فيها المواد الغذائية، لتوزيعها على المحتاجين والمعوزين.

في السلم والحرب 
يجمع جنبلاط كل هذه التجارب بتجربة واحدة حالياً، في ظل مجموعة أزمات سياسية، صحية، اجتماعية، واقتصادية تعصف بلبنان ككل. وهي حتماً محطّة جديدة يستعيد الرجل معها دور الدار التاريخي، ليلملم كل التشظيات التي أصابته منذ 2016 إلى ثورة 17 تشرين، و"التصدعات" التي عصفت بالبيئة الدرزية. قال قبل فترة، ممنوع أن يجوع درزي واحد. نجح في منع وصول كورونا إلى الجبل حتى الآن. هو يعرف أنه لا يمكنه التراجع أمام هذه الأزمات، لأن طبيعة الدروز أنهم يتحلقون حول القوي، في السلم كما في الحرب، في السياسة والاقتصاد، لذلك لا يمكن له أن يضعف أو يتراجع، إنما عليه الإقدام دائماً، ليثبت لهم أن المختارة دار الحماية في الحروب، ودار المعونة أيام النكبات، ودار الشفاء في مواجهة الوباء. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها