الجمعة 2020/02/28

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

زكي طه: اليسار توهّم ثورة ناجزة أسقطت النظام

الجمعة 2020/02/28
increase حجم الخط decrease

"قامت انتفاضة تشرين رداً لبنانياً جامعاً على فشلين أساسيين: فشل الطبقة السياسية المتناسلة طوال مئة عام، في تحويل لبنان وطناً ودولة. وفشل التيارات الليبرالية واليسارية الإصلاحية في محاولاتها الإصلاحية".

بهذه العبارات التي تختزن نقداً للسلطة والمعارضة، لخّص أمين سر المكتب التنفيذي في منظمة العمل الشيوعي زكي طه نظرته إلى التجربة اللبنانية وتجربة اليسار اللبناني في الحرب وفي الانتفاضة الحالية التي يعيش اللبنانيون شهرها الخامس.

وفي حديثه إلى "المدن"، قال طه إن "القضية الفلسطينية والماركسية كانتا تشبهان الدين، فلا تقبلان النقاش ولا المراجعة". وأضاف "لكن منظمة العمل الشيوعي تجرّأت وراجعت تجربتها السابقة في الحرب الأهلية، وأقرّت أنها رهنت البلد للقضية الفلسطينية ودافعت عن الأعمال التي ارتكبتها المقاومة الفلسطينية وحملت البلد أعباء قضية أكبر منه. وهي مستمرة في هذا النقد الذاتي كي لا يستمر اليسار في بناء قضاياه على الأوهام".

يسار التعبئة الحربية
برزت في الآونة الأخيرة انتقادات من القواعد الحزبية على لقاء المنظمة والحزب الشيوعي مع حزب الكتائب اللبنانية، فهل المراجعة التي قام بها جورج حاوي ومحسن إبراهيم ظلت على مستوى القيادة حصراً؟ 
علينا الاعتراف أن القواعد لم تكن على تناغم مع القيادة. وهذا أمر طبيعي. القواعد الحزبية المناضلة انضوت في صفوف اليسار في مرحلة الحرب وفق برنامج تعبئة حربية. وهي ترعرعت على ثقافة الصراع الأهلي، وليس برنامج اليسار وأفكاره. وهذا استمرت مفاعيله هوة وشقاقاً أهلياً بعد الحرب.

لكن اليوم علينا أن نسأل هل وطنية "الحركة الوطنية" هي التعريف الوحيد للوطنية، وكل ما عداها خيانة؟ وهل يحتكر اليسار الوطنية؟ حتما لا. القوى الطائفية كلها سطّرت صفحات في خيانة الوطنية. ونحن اليسار لم نكن ننثر الورود وماء الزهر على المناطق المسيحية، وحاصرنا القليعة ورميش وعين إبل، وكنا نعبّر في ذلك عن وطنيتنا. لكن ماذا حصدنا؟

وحين يعترف حزب الكتائب بأنه أخطأ، واستقال من الحكومة، واتخذ مواقف سياسية مشرّفة في المعارضة، هل نطلب منه أن يصبح حزبا يسارياً وعمالياً كي نلتقي معه؟ لا. ليس المطلوب منه سوى أن يكون تياراً مسيحياً معتدلاً بوجه التطرف. نلتقي الكتائب ونحتضنه ونحاوره على المشتركات الوطنية.

ويسار الأوهام
يترافق تراجع الزخم الشعبي في الانتفاضة مع تصاعد الخطاب اليساري الشللي. هل يعتقد اليسار أن الانتفاضة أتت نتيجة ما راكمه خلال الأعوام الفائتة؟
ساد وهمان في الأشهر الفائتة لدى بعض اليسار: البعض اعتقد - أولاً - أن الكتلة الشعبية جاهزة للتغيير عندما رأوا الساحات مليئة بالمواطنين، فحمّلوها خطابات بشعارات كبيرة، واستسهلوا التغيير الذي يحتاج إلى مسار طويل ومعقد. لكن جموع المتظاهرين الكبيرة في الساحات سرعان بدأت تتفكك وتنكفئ.

وبعض آخر توهم - ثانياً - أن النظام اللبناني انهار والطبقة السياسية هُزمت وسلمت للأمر الواقع، وعلينا استلام السلطة. يكمن القصور في هذا بكيفية قراءتنا الانتفاضة منذ اللحظة الأولى. فهي نجمت عن اختناق البلد على مدى سنوات كثيرة. وخرج اللبنانيون إلى الشوارع للقول ضمناً: نريد وطناً ودولة، ولا نريد سلاحاً يجرنا إلى حرب أهلية. وخرجوا للعن الفساد مطالبين بمدرسة وجامعة ومستشفى ووظيفة وعدم الهجرة... و"كلن يعني كلن فاسدين". وهذا ما صدم رجال السلطة المرتكبين، وراح كل طرف فيها يرمي المسؤولية على الآخر. البعض قال إن مطالب الثورة هي مطالبه وسرقوها منه أو منعوه من تحقيقها. طرف سلطوي آخر راح يتلاعب على الألفاظ، للتمييز بين انتفاضة شريفة وأخرى عميلة تأمرها السفارات.

في الحقيقة، اليسار ينازع منذ التسعينيات: لا حركة نقابية عمالية، ولا حركة اعتراض فعلية في الشارع. والسلطة برعاية الوصاية السورية الأسدية رأت أن بقاء الحركة النقابية والديموقراطية الاعتراضية لا يخدم مصالحها ولا مصلحة الوصي عليها. لذا عملت في مرحلة ما بعد الطائف على تجويف الحركة النقابية وإنهائها، بالتوافق والتنسيق مع القوى الطائفية. وليس صدفة أن وزراء العمل المتعاقبين كانوا يمثلون الوصاية السورية، التي تلاعبت بتطبيق اتفاق الطائف لإيجاد مبررات بقائها عبر أدارة الصراعات بين أهل السلطة من ناحية، وتدمير المساحات المشتركة بين اللبنانيين. فتشتت المعارضة بين موالاة هذا الطرف أو ذاك في السلطة. واعتقد أن هذا الأمر ما زال قائماً إلى حد ما في الانتفاضة الحالية. فالانتفاضة قامت في ظل هذه الظروف وعليها. واليسار توهّم أن ما راكمه أدى إلى الانتفاضة.

رفض الفساد ليس ثورة
خرج اللبنانيون للتعبير عما يعتمل في نفوسهم بلغاتهم وعفوياً. لكن هل نجح اليسار في التقاط الفرصة أم أضاعها؟
منذ سنة جرت محاولات للتحرك في الشارع تحت مسمى الحراك الشعبي للإنقاذ، وواكبناه. لكن كان لدينا شكوك في قدرته على التحول إلى خطوات عملية لبناء حركة شعبية، بسبب طبيعة الخطاب والقوى. فأزمة النظام متعددة الوجه، وسببها واحد: السياسات المالية. السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة لها نتائج اجتماعية ومالية. وإذا لم تلحظ قراءة اليسار هذين الوجهين تظل قاصرة. وهذا ما استمر في الانتفاضة.

كان هناك وهم أن الكتلة الشعبية جاهزة. لكن هناك فرق بين خروج الناس إلى الشوارع ضد الفساد والهدر ووصم أطراف السلطة بالحرامية، وبين انفكاكهم عن أحزابهم وطوائفهم وزعمائهم. فرفض الفساد ليس ثورة.

كيف تنظر إلى البيان الذي صدر عن "لقاء التغيير من أجل لبنان ديمقراطي"؟
ليس صدفة عدم ورود أي كلمة في البيان عن إعادة بناء الحركة النقابية والعمالية. جميع البنود الواردة فيه تعبر عن بناء الدولة الحديثة. وكل بند يتفرع إلى مطالب كثيرة، وهو مهم شكلياً. ونستطيع إضافة مطالب كثيرة عليه. لكن من هي القوى التي تحمل هذا المشروع؟ هل هم حزبيو الساحات؟ أم الناشطون نقابياً وشعبياً وطلابياً وفي أماكن سكنهم وعملهم؟ الواقع يشير إلى أنهم حزبيو الساحات. وهل يختزل هؤلاء المجتمع ويغيرون عنه وباسمه؟ على اليسار التوقف عن وضع برامج وشعارات لا تحملها قوى اجتماعية وتستطيع ترجمتها إلى قضايا ملموسة، وإلا تبقى البرامج حبراً على ورق.

والبيان ليس فيه إشارة إلى القمع الأهلي الذي حصل بحق المتظاهرين، بل اكتفى بالإشارة إلى القمع الرسمي للأجهزة الأمنية. وكلمة الارتهان للخارج مرت مرور الكرام، من دون تسمية الجهات التي ترهن لبنان للخارج.

هناك صراع على لبنان، وهذا له انعكاسات مالية واقتصادية ندفع جميعنا ثمنها. وأين مصالح اللبنانيين في هذا الارتهان؟ المطالبة بنأي لبنان عن أزمات المنطقة من دون تسمية الجهة المعطّلة أمر مستغرب. السيد حسن نصرالله قال أنه يريد إعطاء فرصة للحكومة ويريد إجماعاً وطنياً لتغطية الحكومة على الإجراءات الموجعة التي ستتخذها. لكنه لا يريد إعطاء البلد فرصة. هل تستطيع الحكومة معالجة الأزمة من دون تحييد لبنان عن الصراع الإقليمي؟ ونصرالله لا يريد إجماعاً وطنياً على سياساته الإقليمية. ولا يريد رأي باقي اللبنانيين. أمواله ورواتب عناصره مؤمنة. ومن لا يريد الإجماع على هذه الأمور هو المسؤول عن الفشل الحالي. وبعض اليسار يحجب النظر عن هذه الأمور، ولا يرى أزمة البلد إلا في حكم المصرف.

رؤية يسارية قاصرة
هل فكرتم ببناء جبهة سياسية موحّدة، وما الذي يمنع تشكيل جبهة تضم كل قوى المعارضة؟
الاختلاف في الرؤية والنظرة للبنان تمنعان الأمر. وتشكيل جبهة سياسية لا يفيد حالياً. يجب أن يسبق هذه الجبهة وجود أحزاب منظمة، عناصرها يعبرون عن الفئات الاجتماعية والقطاعات المهنية والاقتصادية. بتنا في الشهر الخامس من الانتفاضة ولم تولد وجهة نظر أو رؤية متوازنة بعد، لتشكل قاطرة للقوى وتحدد مكامن الخلل الحقيقية وأسباب الأزمة الفعلية في البلد. هل هناك فاسد وحيد هو حكم المصرف؟ المصارف تتحمل المسؤولية بفسادها ونهبها ومشاركتها السلطة. لكن لماذا انتهت الانتفاضة إلى التصويب على المصارف حصراً؟ الانتفاضة انتهت لتقول إن المشكلة في مكان واحد: المصارف والمصرف المركزي. أي في الطرف الذي بات خارج السلطة اليوم. وتحميل تيار المستقبل والسياسات الحريرية حصراً نتيجة الأزمة.

قضايا المواطنين المباشرة
- هل الشارع غير جاهز بعد لخطاب اليسار؟
لم نر في الانتفاضة قوى منظمة غير الحزبيين وبعض المجموعات. وأحزاب اليسار تفتقد قطاعات فاعلة من عمال وطلاب وأساتذة. والساحات تفتقد لروابط المعلمين والأساتذة والطلاب والأدباء. فلا يكفي أن نجمع مئات العناصر الحزبيين ونضعهم كبديل عن الحركة النقابية والعمالية.

لقد استعجل اليسار للقطاف في الساحات، ورفع مقولات وشعارات غير مقنعة لجميع اللبنانيين. واستسهال التغيير - وهو مسار طويل ومعقد - أوصلنا إلى نجاح قوى السلطة في تجميع صفوفها. بينما كان المطلوب مخاطبة المواطنين بقضاياهم وحقوقهم المباشرة.

إذا لم نستطع مخاطبة الفئات الاجتماعية بهذه الأمور ننتهي بسحب برنامج سياسي من الأرشيف. وليس دور الحزب وضع البرنامج السياسي وفرضه، بل أصحاب المصلحة هم الذين يضعون مطالبهم وما يمكن تحقيقه منها ووفق آليات عمل معينة، والحزب يؤطرها.

نحن في المنظمة خرجنا إلى الشارع مثل باقي اللبنانيين، لكن بتردد وطارحين على أنفسنا سؤالاً عن كيفية الانتساب إلى الانتفاضة وإيجاد مكان نطرح منه رأينا، ونتفاعل مع غيرنا، وليس للأستذة على أحد بالنضال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها