الجمعة 2020/12/04

آخر تحديث: 18:17 (بيروت)

نموذج النوادي العلمانيّة وانتصارها: رهان على الوضوح

الجمعة 2020/12/04
نموذج النوادي العلمانيّة وانتصارها: رهان على الوضوح
متى انتخابات الجامعة اللبنانيّة التي تضم أكثر من نصف طلاب لبنان؟ (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

قد يبدو مفاجئاً لبعض المراقبين ما جرى من تقدّم كبير للعلمانيين في الانتخابات الجامعيّة هذه السنة، خصوصاً لجهة حجم الانتصارات المتتالية وغير المسبوقة، أو حتّى رمزيّتها في بعض الحالات. لكنّ المتابعين عن كثب لوضع الجامعات والحراك الطلابي فيها، يدرك أن ما بدا في الانتخابات ليس سوى رأس جبل الجليد، الذي ظهر من حركة النوادي العلمانيّة هناك. إذ أن غالبيّة الجامعات لم تجر انتخاباتها بعد، وقد لا تجريها أساساً لأسباب كثيرة. حالة النوادي العلمانيّة بالتحديد، والتي باتت تنسّق وتشبّك منذ سنوات في إطار "شبكة مدى"، صارت تستحق قليلاً من البحث والمتابعة من ناحية أدائها وأولويّاتها ومستقلبها، خصوصاً أن أوساط الشبكة أصبحت تشير إلى وجود أندية ومجموعات علمانيّة منظّمة ومتشابكة في جميع جامعات بيروت وجبل لبنان، وهي أندية باتت تضاهي بحجمها وتأثيرها الفروع الطلابيّة للأحزاب الطائفيّة في جميع تلك الجامعات. بمعنى آخر، خسرت الأحزاب الساحة الطلابيّة في وجه هذه النوادي، ولو أن سائر الجامعات أجرت انتخاباتها هذه السنة، لشهد اللبنانيون الكثير من المفاجآت الإضافيّة.

على أي حال، خاضت هذه النوادي معاركها هذه السنة. وتكيّفت مع ظروف كل جامعة. فيما كان المشترك بين جميع هذه المعارك إصرارها على التمايز في لوائح واضحة تحمل هويّتها وإرثها السياسي والمطلبي، وتميّزها عن لوائح الأحزاب أو المستقلين الذين فضلوا عدم حمل وزر الهويّة العلمانيّة أو ثقل نبرة النوادي العلمانيّة الصارمة في مواجهة الأحزاب. واليوم، يعتقد أعضاء هذه النوادي أن رهانهم على الوضوح في السياسة، والسقف المرتفع في مواجهة أحزاب الطوائف، وابتعادهم عن فكرة توسيع التحالفات الانتخابيّة على قاعدة "المستقلين"، التي لا تحمل أبعاداً سياسيّة واضحة، هو ما أثمر أخيراً في معاركهم وجعلهم أبرز سمات هذه الاستحقاقات الانتخابيّة ونجومها. وهو ما ظهر في نتائج الانتخابات الجامعيّة بالأرقام.

اليسوعيّة: رمزيّة المعركة
النادي العلماني في اليسوعيّة يُعد أحدث عهداً من النادي العلماني في الجامعة الأميركيّة في بيروت. وخلال السنوات الماضية تعوّد الجميع على توقّع المفاجآت الكبرى من الجامعة الأميركيّة تحديداً. لكنّ اداء النادي العلماني في اليسوعيّة هذه السنة خطف الأنظار من شقيقه الأكبر في الأميركيّة، وتحديداً بفضل الرمزيّة التي اكتسبتها المعارك التي خاضها.

في مجمّع هوفلان تحديداً، الذي يحتوي على كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة، اختارت القوات اللبنانية أن تعطي المعركة طابعاً وجودياً في وجه "اليسار العلماني"، القابل لاستخدامه كمطيّة من قبل حزب الله، حسب اعتقاد "القوات". هذه الدعاية وإن جاءت بمثابة تسريب عابر من "مصدر" مجهول على قناة "أم تي في"، لكنّها مثّلت عمليّاً عنوان خطاب القوات اللبنانيّة داخل حرم هوفلان، والأداة التي حاولت من خلالها حرق النادي العلماني في أوساط الناخبين. وقد بدا واضحاً أن القوات حاولت أن تلعب في تلك المعركة على وتر إرث الحرب الأهليّة، وما مثّله اليسار فيها، رغم علمها جيداً أن النادي العلماني وإن حمل بعض النفس اليساري، فهو بعيد عن أدبيات وخطاب تلك المرحلة وما تمثّل.

عمليّاً، بدا أن النادي العلماني استفاد من الهجوم القاسي الذي قامت به القوات اللبنانيّة، خصوصاً أن النادي يستفيد من قدم تجربة النوادي العلمانيّة وسمعتها التي تخالف ما حاولت القوات ترويجه. وهو ما دفع كثيرين إلى التضامن مع النادي في معركته. لا بل يمكن القول أيضاً أن قسوة تلك اللهجة، واستعمالها منصّة إعلاميّة ضخمة، شد العصب على مستوى مؤيدي الثورة خارج الجامعة، ودفع الكثيرين منهم إلى الاندفاع في تأييد النادي بنبرة أعلى. وفي المحصّلة، أعطت القوات بيديها للنادي رمزيّة أكبر انتصاراته هذه السنة: الفوز بكليّة الحقوق والعلوم السياسيّة في هوفلان، خصوصاً بعد أن أحاطت القوات معركتها هناك بكل تلك الهالة.

في كل الحالات، لم يكن النادي العلماني في اليسوعيّة الحملة المستقلّة الوحيدة على مستوى الجامعة، لكنّه حكماً كان اللائحة الوحيدة العابرة للكليات. إذ أنّه رشح لوائح كاملة في 12 كليّة بـ101 مرشّح ضمن حملة "طالب" التي أطلقها، في حين أن باقي اللوائح المستقلّة والحزبيّة الأخرى اقتصرت على حملات متفرّقة، انحصر كلّ منها في كليّة معيّنة. مع العلم أن النادي تميّز عن حملات المستقلين الأخرى أيضاً من ناحية سقفه السياسي المرتفع والواضح. وهو ما مثّل الدافع الأساسي للنادي للمشاركة ضمن حملة طالب بشعاراته المعروفة، بدل من خوض المعركة تحت عنوان "المستقلين" فقط، بهدف توسيع التحالف في مقابل إفقاد المعركة أبعادها السياسيّة والمطلبيّة الأساسيّة.

وفي المحصّلة، خرج النادي كنجم الانتخابات من دون منازع، بعد فوزه منفرداً بـ85 مقعداً، وانتزاعه رئاسات جميع الكليّات الـ12 التي ترشّح فيها. وهو ما يعني أنّ الحصّة التي نالها وحده توازي بحجمها حصص القوات وتحالف 8 آذار والمستقلين الآخرين مجتمعين، سواء من ناحية عدد الكليات التي فاز برئاستها أو من ناحية عدد المقاعد. وبذلك، يعتبر أعضاء النادي أن خيارهم في المواجهة بالطرح العلماني الواضح، وبالنبرة السياسيّة الصريحة التي سمّت الأمور بمسمياتها، هو ما نجح أخيراً في مواجهة أحزاب الجامعة، وهو ما مكّنهم من الفوز بثقة الطلاب.

الأميركيّة: معركة بألغام كثيرة
على عكس اليسوعيّة، دخل النادي العلماني في الجامعة الأميركيّة إلى معركته محمّلاً بألغام كثيرة. في حالة اليسوعيّة، كان الفرز واضحاً بين النادي العلماني ومعسكري 8 آذار والقوات، في حين أن الحملات المستقلة القليلة الأخرى ظهرت بالتنسيق مع النادي في كليات لا وجود للنادي فيها. أما في حالة الأميركيّة، فظهر خليط هجين من اللوائح المتعددة التي تخالط فيها المرشحون المستقلّون فعلاً مع المحازبين السابقين والمحازبين الذين اختاروا الترشح كمستقلين لأسباب تكتيكيّة. وفي النتيجة، أصبحت أحزاب الجامعة نفسها تشارك وتفاوض وتقايض في الانتخابات، إنما باسم مرشحين ضمن لوائح "مستقلة" لا تحمل أي لون أو نكهة سياسيّة.

أمام هذا الموقف، اختار النادي العلماني في الأميركيّة التميّز وحده في حملته "الخيار الجامعي"، في محاولة للحفاظ على خصوصيّة مشاركته ونبرته السياسية المرتفعة والواضحة، مقابل سائر الحملات التي اختار أغلبها الاكتفاء بعنوان "الاستقلاليّة"من  دون تحميلها أي أبعاد سياسيّة أوسع، والتي بات واضحاً أن لونها الرمادي يعود لوجود حزبيين فيها. مع العلم أن النظام الانتخابي النسبي، مع اعتماد الكليات كدوائر انتخابيّة موسّعة، سمح للنادي بالمشاركة على هذا النحو من دون الدخول في معارك إلغاء مع أحد، وخصوصاً المستقلين فعلاً ضمن تلك اللوائح، لكون هذا النظام الانتخابي كفيل بإعطاء كل لائحة حصّتها.

في كل الحالات، انتهت انتخابات الأميركيّة بنيل النادي ما يقارب نصف أعضاء مجلس الأساتذة والطلاب، فيما توزّعت باقي المقاعد على ثلاث لوئح أخرى ومرشّح مستقل. وبذلك، خرج النادي بوصفه الطرف الفائز بجدارة في الانتخابات، وهو ما أهّله لاحقاً للفوز وحده بجميع مقاعد الهيئة الإدارية لمجلس الأساتذة والطلاب.

دروس من التجارب
يمكن القول أن هذه النوادي ترى أن تجربتها هذه السنة تحمل الكثير من العبر، التي يمكن الاستفادة منها للمستقبل. فهذه النوادي لطالما حملت لواء العلمانيّة من دون أن تخشى من أثر هذه الصبغة على شعبيّتها. كما حملت في الماضي شعارات التضامن مع الشعوب العربيّة الثائرة في وجه جميع الديكتاتوريّات من دون إستثناء، فيما نشطت في محطات عديدة رفضاً لرهاب المثليّة وحالات العنصريّة في وجه اللاجئين. باختصار، حملت هذه النوادي ما يكفي من قضايا ذات سقف مرتفع يبتعد عنها الكثير من شرائح المجتمع المدني لكونها "غير شعبيّة". وحين قررت النوادي العلماني المشاركة في الاستحقاقات الانتخابيّة الجامعيّة، اختارت المشاركة ضمن لوائح متميّزة، تحمل هذا السقف السياسي المرتفع بلا مواربة، بدل المشاركة ضمن لوائح تجمع المستقلين من دون أن تتمتّع بهذا الوضوح في السياسة.

في الخلاصة، وبعد ابتعاد الطلاب عن أحزاب الطوائف، كان من الواضح أن هذه النوادي مثّلت البديل الطبيعي لهؤلاء الطلاب. فالطريق إلى الفوز بثقة الناخبين لا يمر عبر تمييع الخطاب السياسي وتفريغه من محتواه بهدف الابتعاد عن الأمور الإشكاليّة، أو بالاكتفاء بشعارات "الإستقلاليّة" من دون تضمين المعركة بُعداً مطلبياً وسياسياً واضحاً. بل كان من الواضح أن الطلاب اختاروا في النهاية الموقف الأوضح في السياسة، والأكثر صراحة في تسمية الأمور بأسمائها، بما فيها طريقة مواجهة أقطاب النظام الطائفي. أمّا الأهم، فهو أن المستقلين والعلمانيين لم يتحدوا في لائحة واحدة في الجامعات التي شهدت معارك انتخابيّة. وقد تبيّن أن ذلك لم يكن ضروريّاً. فالتنازل في الخطاب السياسي من أجل "توحيد المستقلين" كان سيدفع النوادي العلماني إلى خسارة نقطة قوّتها: الخطاب الصريح والواضح أمام الطلاب.

بمعزل عن كل ذلك، يبدو أن الإشكاليّة الأساسيّة أمام هذه النوادي تكمن اليوم في عدم إجراء الانتخابات الطلابيّة في معظم جامعات لبنان. وهو ما يدفع المجموعات والنوادي العلمانيّة في تلك الجامعات إلى خوض معركة فرض الانتخابات قبل خوض الانتخابات نفسها. ولعلّ تمكّن النادي العلماني في اليسوعيّة من فرض إجراء الانتخابات، بعد محاولة تأجيلها، يمثّل بارقة أمل لهؤلاء الطلاب. أمّا الأهم، فهو غياب الانتخابات الطلابيّة منذ 12 سنة عن أكبر جامعات البلاد على الإطلاق، أي الجامعة اللبنانيّة التي تضم أكثر من نصف طلاب لبنان الجامعيّين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها