الجمعة 2020/12/25

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

بؤس الحكم وبأس الصيغة اللبنانية

الجمعة 2020/12/25
بؤس الحكم وبأس الصيغة اللبنانية
لا قدرة اليوم على إنتاج صيغة كيانية بديلة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

يعيد بؤس الحكم الحالي، طرح نقاش مقولة الصيغة اللبنانية، المفتوح منذ الإرهاصات الأولى التي واكبت الطموح إلى انبعاث "الشخصية" الوطنية اللبنانية. كان ذلك في زمن السلطنة العثمانية، وخاصة في فترة "الرجل المريض"، وما واكب ذلك المرض التكويني العثماني من أزمات ومن اختلالات ومن استعصاء على الإصلاح، في مركز السلطنة في إسطنبول، وفي سائر أجزاء الإمبراطورية التي بدأت تترنح تحت وطأة أزماتها الداخلية، وفي مواجهة ضغوط القوى العالمية الكبرى، التي كانت فاعلة وناشطة ومتدخّلة يومذاك.

ربما كان النقاش تلك الأيام اللبنانية صحيحاً وغير معتلّ مثل النقاشات اللاحقة التي رافقت قيام الكيان الوطني، ولازمت باعتلالها عقود النشأة الاستقلالية، وما زالت تتحكم بجسد الوطنية اللبنانية المتهالك، حتى يوميات المشهد السياسي الراهن.
لطالما جرى إنكار الوطنية كصفة ملازمة لمشروع الاجتماع اللبناني، ولطالما جرى إنكار استقلال هذه الوطنية في كيان جغرافي وفي دولة وفي مؤسسات. لقد تضافرت عناصر الإنكار البعيدة مع مثيلاتها اللاحقة. إرث حقبة العام 1840 والعام 1860، جعل الوطنية مختزلة في بقعة جغرافية محددة، لا تقيم على اتصال اندماجي بما سيعرف لبنان لاحقاً، ذات الإرث جعل الكيانية مقتصرة ديمغرافياً على طائفتين، توزعتا ثقل النشأة، وتشاركتا على تفاوت في اقتسام مركزيتها. إذن، في الجغرافيا وفي الديمغرافيا وفي الانتماء، كانت الأطراف، التي ستصير لبنانية من طريق التجميع لاحقاً، غير لبنانية وغريبة "الوجه واليد واللسان" عن المركز اللبناني الذي تحلقت حوله، ونشأت بالانتساب إليه "دولة لبنان الكبير"، الذي ما زال يصارع لكي يكون كبيراً!

الصيغة التي تعايش معها الذين صاروا لبنانيين لم تكن موضع قبول من قبل الجميع، لا في مركز القرار الصيغوي ولا في أطرافه. عدم القبول ظلَّ قانوناً ساري المفعول، لذلك تعددت المحاولات الداخلية التي عملت من أجل تعديل عدم القبول من خلال إصلاح شروطه التي تجعله ممكن القبول، كذلك تعددت المحاولات التي ركبت طموح تغيير كل معادلة "عدم الرضى"، فاعتمدت سياسات تغيير جذرية استهدفت تعديل النظام القائم تعديلاً بنيوياً وسياسياً، مما يجعله غير قابل للقراءة بنظارات الصيغة القديمة.
لقد صمدت الصيغة في وجه محاولات إصلاحها، وفي وجه معارك تعديلها، وعاندت وقاتلت مشاريع تغييرها، وعلى الضد من كل ذلك أعادت الصيغة إنتاج ذاتها في صورة هشاشة أوسع، وفي صورة اعتلال أخطر، وما كان عدم رضى من جانب طرفي، أو من قبل تجمعات أهلية طائفية طرفية بعينها، بات عاملاً مشتركاً بين من ظلوا طرفيين في السياسة، رغم التبدل الذي أصاب أوضاع الأطراف، وبين الذين انتقلوا إلى الطرفية السياسية والسلطوية من تجمعات الأهل في المركز اللبناني ذاته.

يتشارك اللبنانيون راهناً المركزية والطرفية في الوقت ذاته، وهم يتشاركون التوجس من مجهول الصيغة، أي من مجهول التسوية الجديدة الممكنة، هذا على الرغم من العلم الواضح بكل عوامل وأبعاد التعديلات الأهلية البنيوية التي طرأت بعد كل تلك السنوات الكيانية الطويلة.
لكن وضوح العوامل واقعياً، أي على صعيد تجسد عناصره كحقائق ملموسة، لم يقيّض له الانعكاس في وضوح فكري يعين على اقتراح خطوات عملية متدرجة، لجعل ما هو واقعي في الواقع، واقعاً أيضاً في السياسة وفي مختلف جوانب الصيغة الوطنية.

أبرز العوائق في طريق نقل الواقعي إلى الفكري، ونقل هذا الأخير إلى الحيِّز الواقعي الجديد أو المتجدد، هو طائفية التبدلات التي تجعل كل تعديلٍ تعديلَ غلبة لطرف على طرف، وتكريس هيمنة مكان هيمنة، أي كل ما كان قد أثبت استحالته على مدى العقود اللبنانية. هذا بكلامٍ آخر، يطل على نقطة غياب إمكانية تشكيل وطنية لبنانية متقدمة على تلك التي تحلَّق حولها اللبنانيون، بالقبول أو بالرفض الابتدائي. وهنا لا بدَّ من ملاحظة هامة، وهي أن الفكر الطائفي المعروض كبدائل على اللبنانيين، لا يمكنه أن يشكل طرحاً عابراً، وليس هذا فحسب، ففئوية الطائفيين التي تتصدى للعمل "الصيغوي" تجعل من الصعب بنيوياً، أن "ينضح وعاء" الطائفية الفئوي الخاص، بعمومية تتجاوز الوعاء وما فيه.

لا راهنية إذن للقول بالقدرة على إنتاج صيغة كيانية بديلة. لذلك يظل الترقب سيد الموقف، وتظل إدارة اليوميات هي السياسة الوحيدة، ويظل التجاوز الحذر هو شكل العلاقة بين المجموعات المعنية باللبنانية.
ما جرى ذكره من مواصفات عيش ينحِّي واقعياً كلمات العيش المشترك، والتساكن الهادئ، ونهائية الوطن، وثبات الصيغة والعرف والميثاق. كل ذلك بات من الماضي. هو ماضٍ عنيد، والمستقبل غير المرئي بقسماته المتجاوزة، هو مستقبل معاند، وما بين عناد ومعاندة، ما زال اللبنانيون يحاولون صيغة ما.. صيغة يفاقم صعوبة السير على دروبها، حكم فخامة القويّ، ودولة "دولة المستقوي"، وعجز دولة المستضعف، من قبل تحالف الفخم مع المستقوي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها