السبت 2020/12/19

آخر تحديث: 16:47 (بيروت)

لبنان والتطبيع مع إسرائيل: التسلّح بالقانون الدولي

السبت 2020/12/19
لبنان والتطبيع مع إسرائيل: التسلّح بالقانون الدولي
التحول الدبلوماسي العربي والخليجي جاء في أسوأ توقيت للبنان (عزيز طاهر)
increase حجم الخط decrease

تقع الأنباء عن تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل كعبء ثقيل على دولة لبنان المتهالكة. كيف تتعامل بيروت مع هذا التحول الدبلوماسي العربي والخليجي في هذا التوقيت بالتحديد، توقيت الانهيار الاقتصادي والمالي؟ هل يمكن لدبلوماسية "دولة فاشلة" أن تحافظ على حزمها (بغض النظر الآن عن معنى الحزم)؟ هل بإمكان الدبلوماسية اللبنانية اليوم أن تساهم بالدفع نحو إعادة الاعتبار للمسألة الفلسطينية وفقاً لمعايير القانون الدولي، في وقت عجز فيه العالم عن إلزام إسرائيل بوقف انتهاكاتها للقانون الدولي، والكفّ عن عرقلة قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين؟

ما بعد الخطابات الفارغة
للوهلة الأولى، سيستغرب البعض هذا الاهتمام. سيتجدد السجال حول علاقة لبنان بهذه المسألة. هل هي علاقة واجب والتزام، أم حاجة، أم تضامن، أم حياد، أو عداء؟ أياً تكن وجهة النظر المُهَيْمنة اليوم، لا يمكن عملياً الهروب من سؤال التطبيع. وبما أن إشكالية التطبيع باتت مطروحة عربياً، فلا يمكن فصلها عن مصير المسألة الفلسطينية أو بالأحرى مصير الدولة الفلسطينية المستقلة. وعليه، لا بد للدبلوماسية اللبنانية أن تتبنى مقاربة تُجَنّب لبنان المزيد من المخاطر والمشاكل. مقاربة تقوم على أساس التوفيق بين مصلحته الوطنية وأمنه واستقراره الداخلي من جهة، وبين علاقاته المتوازنة مع الدول العربية والخليجية. والحال، تبقى المقاربة الأفضل هي تلك التي تعالج المسألة الفلسطينية من زاوية القانون الدولي بعيداً من أي خلفية دينية أو قومية.

لا بد من تجاوز الخطابات الفارغة والكاذبة عن "القضية المركزية للعرب" و"الوحدة العربية"، و"الأمن القومي العربي" و"أين الجيوش العربية"، بوصفها شعارات لم تخدم سوى أنظمة الاستبداد والفساد العربية. بدلاً منها، ثمة نقطة قوة أساسية يجب الحفاظ عليها، من وجهة نظر دبلوماسية، تتمثل في مبدأ "الأرض مقابل السلام" المنسجم مع قرارات منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

التحصّن خلف القانون الدولي يعني مواجهة سياسة تكريس الاحتلال غير المشروع من خلال تسلّح الدبلوماسية اللبنانية، بكل بساطة، بأبرز قرارات الشرعية الدولية: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، رقم 194، الصادر في 11 كانون الأول 1948، يضمن حق العودة للاجئين. قرار مجلس الأمن، رقم 242، الصادر في 22 تشرين الثاني 1967، يدعو إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة بدءاً من 5 حزيران 1967 (ينطبق اليوم على القدس الشرقية والضفة الغربية والجولان بعد الانسحاب من سيناء وغزة). ويطالب إسرائيل بإعادة قواتها إلى الوضعية التي كانت عليها قبل 4 حزيران. ويدعو إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين، التي تفاقمت بعد حرب 1967.

اتفاقات أوسلو
تكْمُن أهمية قرارات الأمم المتحدة بأنها تكرّس مبدأ عدم قبول حيازة إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية بواسطة الحرب. بمعنى آخر، لا يمكن لإسرائيل فرض سياسة الأمر الواقع وشرعنة احتلالها. وقد تم تثبيت هذا المبدأ في مقررات مؤتمر مدريد للسلام، الذي عقد بين 30 تشرين الأول ومطلع تشرين الثاني 1991. منذ ذلك الوقت، باتت المعادلة قائمة على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، أي انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة مقابل تحقيق السلام بينها وبين الفلسطينيين والدول العربية.

لو احترمت إسرائيل القانون الدولي والقرارات الدولية ومسار مدريد، لكان أصبح لدى الفلسطينيين دولتهم المستقلة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، بموجب "اتفاقات أوسلو"، الموقعة عام 1993، والتي مهما قيل عنها وعن التنازلات التي قدمها ياسر عرفات لإبرامها، تبقى أفضل ما حصل عليه الفلسطينيون منذ بدء الصراع (ليتها أُبْرِمَت قبل حرب لبنان عام 1975!).

بيد أن إسرائيل أنْكَرَت، كعادتها، ما بقي من حق فلسطيني يكفله القانون الدولي. انقلبت على مسار مدريد وعلى "أوسلو"، مُتذرّعةً بتطرف إسلاموي فلسطيني، ومُسْتخدمةً عملياته كهدية مجانية لسياساتها التوسعية والاستيطانية والإجرامية. منذ العام 2000، تُراكِم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لا سيما تلك التي يقودها بنيامين نتنياهو، الخطوات الانقلابية على عملية السلام، بما يتنافى مع أبسط مبادئ القانون الدولي.

آخر قرار لم تحترمه ولم تُنَفّذه إسرائيل، هو القرار 2334 الذي أقره مجلس الأمن في 23 كانون الأول 2016، من دون "فيتو" أميركي، والذي يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويؤكد عدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات فيها منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية. ويعتبر هذا القرار أن إنشاء المستوطنات يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين وإحلال السلام العادل. وينص على أن أي تغييرات على حدود عام 1967 لن يعترف بها إلا بتوافق الطرفين.

القوة والإذلال
كان ذلك قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. هذا الأخير ذهب أبعد ما يمكن أن يصل إليه رئيس أميركا في تعاطيه مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي. نسف جملةً وتفصيلاً أسس الحل السلمي القائم على القانون الدولي. الدبلوماسية الأميركية في عهد ترامب، وفّرت تغطية تاريخية وغير مسبوقة لتوجهات نتنياهو الذي يجاهر في انتصار منطق القوة على منطق القانون.

في تعليقه على اتفاقيات التطبيع، في آب ثم في تشرين الأول 2020، يقول نتنياهو إن "هذا الاعتقاد بإمكانية إحلال السلام المبني على الانسحاب والوهن"، في إشارة إلى مبدأ "الأرض مقابل السلام" المتوافق عليه دولياً، "قد فارق الدنيا وتلاشى، وتم استبداله باعتقاد آخر مفاده السلام الحقيقي، والسلام مقابل السلام والسلام من منطلق القوة، وهذا ما نروّج له حالياً"، بحسب نتنياهو الذي يعود ويقول: "واضح تماماً أنه طرأ تغيير في التفكير الذي يقول إن الطريق الوحيد للتوصل إلى تطبيع واتفاقيات سلام مع العالم العربي هو اتخاذ خطوات ستعرض أمن إسرائيل للخطر تجبرنا على الانسحاب لخطوط 1967 غير القابلة للدفاع واقتلاع أكثر من مئة ألف يهودي من منازلهم وتقسيم أورشليم"، بحسب تعبيره. هذا يعكس تمسكاً واضحاً بالمستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية، وبالقدس عاصمة لإسرائيل، خلافاً للقرارات الدولية. قمّة العجرفة في منطق نتنياهو تتمثل في تكراره القائل: "ما نقوم به هو سلام من منطلق القوة ــ السلام مقابل السلام والاقتصاد مقابل الاقتصاد".

هذا الكلام يدين نفسه بنفسه. لا ينطوي فقط على سلوك استقوائي واستعلائي، بل يتخذ أيضاً منحى إذلالي. ومعروف في تاريخ العلاقات الدولية أن الإذلال يُغَذّي نزعة الانتقام، ويبقي بالتالي على دوامة العنف والحروب. موهوم من يعتقد أن التعايش السلمي سيتحقق بين شعوب المنطقة، بمن فيهم اليهود، فقط على أسس التعاون الاقتصادي. فهذا التعايش لا يقوم إلا على دعامتين: القانون الدولي أولاً، ثم التنمية الاقتصادية والاجتماعية ثانياً (...). بمعنى آخر، ستبقى إسرائيل مطالبة بإنهاء الاحتلال مهما بلغت من قوة ومهما بلغ العرب من ضعف.

إغراءات التطبيع
ليس على لبنان، والحال هذه، أن ينساق وراء قافلة تطبيع تضرب عرض الحائط مبادئ القانون الدولي. بانتظار إعادة ولادة دينامية دولية وعربية تعيد الاعتبار لمبدأ "الأرض مقابل السلام" بدلاً من مبدأ "السلام من منطلق القوة" لصاحبه نتنياهو، يمكن للبنان أن يتعاطى مع الدول العربية المطبّعة تماماً كما يتعاطى مع دول أجنبية تربطها علاقات طبيعية مع إسرائيل. صحيح أن بعض هذه الدول لا تضغط على الأخيرة بالمرّة، أو بما فيه الكفاية، لكن هناك أقطاب دوليين، مثل فرنسا والاتحاد الأوروبي، يحرصون في الآن معاً على "حق إسرائيل بالوجود" و"الأمن"، وعلى "حق الفلسطينيين في دولة مستقلة قابلة للحياة". أكثر من ذلك، يضغطون إلى حدّ ما على إسرائيل، مثلاً من خلال مقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في الأراضي المحتلة. وهذا السلوك "العقابي" نسبياً، يجب أن يكون قدوة حتى للدول العربية التي أبرمت اتفاقات تطبيع مع إسرائيل. أي يمكنها اعتماد دبلوماسية ضاغطة وعقابية على دولة الاحتلال، حتى ولو كانت علاقاتها سلمية معها من الآن فصاعداً.

"إغراء التطبيع" بالنسبة لبعض اللبنانيين هو مشابه في نتائجه لـ"إغراء القوة" لدى بعضهم الآخر. الأول، تحت ذريعة اقتصادية وتنموية كاذبة، استزلامية، تزلّفية، دافعها الأساس إنقاذ منظومة الأوليغارشية والفساد والزبائنية والغنائمية، هو خيار قد يؤدي إلى تفجير الوضع الداخلي، أي مزيد من الهلاك والدمار. أما الثاني، تحت حجة "ما أُخِذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فهو خيار قد لا يجنّب لبنان عواقب محتملة لاتفاقيات التطبيع من الناحية الأمنية والعسكرية؛ أي احتمال أن تشن إسرائيل حرباً ضد حزب الله مستفيدةً من جديد علاقاتها مع بعض الدول العربية، مما سيعمّق الهاوية التي يقبع فيها لبنان اليوم، وذلك من دون أن يساهم في إعادة أي حق لصاحب الحق الفعلي، أي الفلسطينيين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها