الخميس 2020/11/26

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

كي لا يذهب التبرُّؤ من الزعماء الأشرار أدراج الرياح

الخميس 2020/11/26
كي لا يذهب التبرُّؤ من الزعماء الأشرار أدراج الرياح
الثورة الفعلية في لبنان عمل صعب وشاق (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
لا أدري لماذا صار يندُر التفكير والنظر في ما حلّ بلبنان اليوم، باعتباره نتاجَ مسارٍ اجتماعي-سياسي، وعلاقات وممارسات اجتماعية وسياسية، متدافعة ومركبة ومتفاعلة، للجماعات اللبنانية وهيئاتها وقواها وزعمائها وأحزابها. ولماذا صار الدارج والمستسهَل والمفضل تبرئة المجتمع والجماعات من الأزمات اللبنانية الراهنة، وحصرها كلها باعتبارها صنيعة الزعماء الأشرار وارتكاباتهم الفاحشة، وحدهم من دون سواهم، مع أنهم هم من أداروا الوصول إلى الكارثة، وعاشوا طويلاً على التنعم بخيرات البلاد قبل الوصول إليها.

لكن الأكيد أن تبرئة المجتمع والناس، جماعات وأفراداً، من التحلل والانهيار اللبنانيين الراهنين وحصر المسؤولية عنهما بالزعماء السياسيين، ليسا سوى للاستهلاك الإعلامي، والإعلاني والدعائي المتناسل والمتصل، لتغطية وتبرير الاستقالة الجماعية والاجتماعية من التبصّر الفعلي والدؤوب في ما حصل ويحصل، وتحوّل الكلام عنه وفيه إعلانات سريعة تذهب أدراج الرياح، ويجعل التفكر فيه في خبر كان.

والأكيد أيضاً أن الجميع يعلم، لكنه ينسى أو يتناسى أن ميشال عون وجبران باسيل، ونبيه بري وحسن نصرالله، وبعدهم سليمان فرنجية ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري - بوصفهم الوجوه الأبرز لما يسمى "أركان منظومة الحكم والسلطة" في لبنان - ليسوا سوى صنائع عضويين لفئات واسعة في جماعاتهم وطوائفهم، وتواليهم ولاءً عصبياً وعصبوياً، عاطفياً ومصلحياً، وتتشبث بهم، على أشكال ومقادير متباينة ومتفاوتة، قدر ما يتشبثون هم بدورهم بمواليهم وعصبيات مواليهم. وهذا فوق ما هم الزعماء، بأفعالهم وممارساتهم وخياراتهم وكلماتهم، صنائع شخصيين لأنفسهم وذواتهم وتواريخهم وسيرهم الشخصية.

ثم إن الولاءات والعصبيات والتشبث بها وبالزعماء، غالباً ما يشتد نشاطها ويتغذى من قوة ذلك المركّب اللبناني الذهبي والعريق: تربُّص كل جماعة بالجماعات الأخرى، حذرها وخوفها منها، حسدها واحتقارها إياها، مازجةً هذا كله بفخارها بعصبيتها وزعيمها.

لذا يبدو ضرورياً في هذا السياق التذكيرُ بأن لكل عصبية وزعيم في "المنظومة" كتلة من النواب انتخبتهم الجماعات اللبنانية لتمثيلها في البرلمان. وكذلك التذكير بأن لكل زعيم وكتلته النيابية وعصبيته، جهازه الحزبي ومحازبوه وموالوه، موظفوه الكبار والصغار في الجهاز الخاص وفي أجهزة الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة كلها تقريباً. وهؤلاء جميعاً - أي جمهور الناخبين وموالي العصبيات والزعماء ونوابهم - غالباً ما يعملون ويتزوجون وينجبون وتنعقد شبكات علاقاتهم وولاءاتهم وأنسابهم وأهوائهم وغرضياتهم ومصالحهم، الأهلية والقرابية والعائلية، في مناطق وبلدات وتجمعات سكنية، شبه متجانسة في هوياتها الطائفية والمذهبية.

وربما ليس من تاريخ اجتماعي وسياسي، وحتى اقتصادي وثقافي، لما يسمى لبنان "الصيغة  والميثاق"، خارج هذا المركّب اللبناني الذهبي العريق.
****

أما ما حاولته انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 ومجموعاتها "الناشطة"، فهو بالضبط تفادي التبصر في هذا المركب اللبناني الذهبي العريق، ومواراته خلف شعارها الذهبي المستعجل: "كلن يعني كلن"، أي زعماء المنظومة الذين تجنّبت تسمية أحد منهم. أما في حال تسمية جماعة أو مجموعة من المنتفضين المحتجين أحد الزعماء، فكان عليها أن تسمي الآخرين كلهم أيضاً، كي لا يدبَّ الشقاق والغضب اللذان قد يؤديان أحياناً إلى الصدام والعراك بينها.

ويعني هذا أن ما حاول المنتفضون ومجموعاتهم الناشطة تجنّبه وتفاديه وإزاحته جانباً، ليس سوى التاريخ الاجتماعي والسياسي الحيّ للبنان وجماعاته، علاقاتها الفعلية الداخلية والحميمة في ما بينها وبزعمائها المتنافرين، عصبياتها وولاءاتها المتنافرة. وذلك ربما في محاولة من المحتجين صبَّ النقمة والغضب كلهما على الزعماء وحدهم، لتلافي الشقاق في ساحات الانتفاضة، والتي توزعت أصلاً على المناطق، على الرغم من مركزية العاصمة بيروت. ولربما لظن مجموعات من المحتجين أن المتظاهرين جميعاً وفرداً فرداً، مثلهم خرجوا على جماعاتهم وانتماءلتهم وزعمائهم، وما عادوا مرتبطين بها ولا موالين للزعماء، بمجرد مشاركتهم في التظاهرات.

لكن تجمع وتوحد المحتجين المتظاهرين في شوارع انتفاضاتهم وساحاتها، آنياً وبسهولة كرنفالية، لا يعني أنهم صاروا عراة من تواريخهم وسيرهم الاجتماعية العامة والشخصية، ومن انتماءاتهم كلها. ذلك لأن هذين الاجتماع والتوحُّد في الشوارع والساحات لا يحدثا إلا آنياً، وربما في غفلة من التاريخ والعلاقات الاجتماعية الفعلية الراسخة، أو إزاحتهما جانباً، مع التواريخ والسير الشخصية والذاتية لكل منتفض في الشوارع والساحات.

وهذا كله للقول إنَّ ليس من سبيل للخروج من الولاءات والعصبيات، وإلى الانتفاض أو الثورة عليها، إلا باحتفال كرنفالي يبتلعها ويواريها ويخفيها ويتستر عليها، آنياً وسريعاً وفي غفلة من التاريخ والزمن والعلاقات الاجتماعية الفعلية. وذلك للهروب من إشهار تلك الولاءات والعصبيات والانتماءات وتواريخها، إعلانها والاعتراف بها، لمساءلتها ومراجعتها والتبصر فيها، والكشف عن مساراتها العامة والشخصية، والخروج منها وعليها خروجاً فعلياً، وليس كرنفالياً وبالمسايرة والمحاباة والمراوغة والمكابرة، بل بمساءلة النفس والذات والآخرين مساءلة عسيرة.

وعمل من هذا النوع - أي المساءلة والمراجعة والاعتراف والكشف والتكاشف - يتطلب بالدرجة الأولى خروجاً بطيئاً على النفس والذات والتاريخ العام والشخصي، وعلى الانتماء للجماعة والطائفة والولاء لهما وللزعيم، وإشهار هذا الخروج في الساحة العامة وعلى الملأ. وإلا تتحول الانتفاضة أو الثورة احتفالاً كرنفالياً للتستر على التاريخ والولاءات والانتماءات والعصبيات والزعماء.

وهذا يعني أن الانتفاضة أو الثورة الفعلية في لبنان عمل صعب وشاق، وقد يحتاج إلى ما يشبه الجهد والنشاط الفنيين والجماليين، لابتكار أساليب الخروج من التاريخ والذات والنفس والانتماءات والولاءات وعليها.

وكأنما كرنفلات 17 تشرين كانت في وجه من وجوهها، تصديقاً لما تراشق به اللبنانيون ورشقهم به من استتبعهم واحتل بلادهم، وغرقوا فيه مديداً (الحروب الأهلية) وهروباً منه في الوقت نفسه.

ولربما بعد انقضاء سنة على الانتفاضة والكارثة اللبنانيتين، يبدأ ذلك العمل العسير الشاق، والطويل النفس وغير الكرنفالي، الذي اختطه الانتفاضة، التي أرست شرخاً وهوة بين جماعات وأفراد كثيرين وبين زعماء لبنان الشرهين والأشرار: البدء بابتكار صيغ وأطر تجمع ذلك الغضب والنقمة على الزعماء، وتجعله مداراً للمساءلة والمراجعة والاعتراف والكشف والتكاشف، حول الانتماءات والعصبيات وفاعليتها في حياة لبنان واللبنانيين. وقد يتطلب هذا تبصراً في المسارات الشخصية والذاتية للأشخاص والجماعات، والاجتماعية العامة للبلاد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها