الإثنين 2020/11/02

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

الرؤساء الأقوياء.. الرئاسات الضعيفة

الإثنين 2020/11/02
الرؤساء الأقوياء.. الرئاسات الضعيفة
"القوي" أكبر من صفته الرسمية المحددة والمنضبطة بالدور والدستور (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

الظاهرة السياسية الأبرز في لبنان، هي تحطيم "الرؤساء الأقوياء" لرئاساتهم. ما أصاب رئاسة الجمهورية في عهد "القوي" ميشال عون ليس أقل سوءاً مما أصاب رئاسة الحكومة في عهود "الأقوى سنّياً" سعد الحريري. أما الرئيس "الأبدي" لمجلس النواب، الفائض القوة، نبيه برّي، فقد تعاظمت قوته دوماً بالاطراد مع ضعف المجلس نفسه.

هي واحدة من المفارقات اللبنانية، ومن أزمة النظام المتمادية رداءة وتهافتاً. وعلى عكس المتعارف عليه في السياسة وفي طرائق الحكم، بات الأقوياء والأقدر تمثيلاً وشعبيةً وبالاً على مناصبهم ومراكزهم، وأضحت سلطتهم مقترنة بإضعاف الدولة ككيان ومؤسسات و"سيستم" عمل وإدارة وقوانين.

من الواضح خلال 15 عاماً، بالتجربة المستمرة اقتران السياسي القوي باستحواذه على سلطة سمتها الأولى القدرة على الانفلات من ضوابط الدستور. بمعنى أن برهان القوة هو تحديداً التجبّر على الدستور. بل و"القوي" هذا الحريص على عدم إظهار أي ضعف إزاء الأقوياء الآخرين، يجد نفسه باستمرار عاجزاً عن أي تواضع. السياسة عنده هي استقواء وحسب، لا على الآخرين فقط بل على منصبه ومركزه بالذات. إنه أكبر من صفته الرسمية المحددة والمنضبطة بالدور والدستور. كلما ازدادت قوته ووزنه وثقله تشققت كرسيه وتكسرت..   

هذا النمط من السياسيين السائد في لبنان بات يشكل مثالاً يحتذي به الطامحون إلى استحواذ القوة السياسية. فيسعى الشيعي إلى الاقتداء ببرّي، والسنّي إلى محاكاة الحريري، والماروني يحلم أن يصير ميشال عون جديداً.. وعلى هذا المنوال، تترسخ "ثقافة سياسية" لا إفلات منها، تُكرر الظاهرة نفسها وتوّلد النزاعات عينها، والأداء السياسي ذاته.
شخصنة المنصب، هي تتويج لمسار يبدأ باختزال الطائفة بحزب، ثم اختزال الحزب بشخص، الذي يصير بمقدوره -وهو الحائز على "شرعية التمثيل" وحصريته- ادعاء القوة وطلب احتكار السلطة على نحو مؤبد أو توريثي. وهذا مسار كرسه تقريباً الرؤساء الثلاثة، عون وبرّي والحريري. إضافة إلى الزعامات الأخرى، التي نجحت فعلياً بتحويل الانتخابات الديموقراطية إلى "مبايعة ديموقراطية" تضمن بقاء العصبة نفسها والأشخاص ذاتهم مداومين على الحكم والسيطرة.

تشكل "مأساة" سعد الحريري نموذجاً عجائبياً. فلكي يبقى هو وحده "الأقوى سنّياً" أي المرشح الدائم لتشكيل الحكومة، كان عليه دائماً أن يفرّط كل مرة برصيد رئاسة الحكومة، فيكون قوياً في منصب ضعيف، وكلما عاد إلى السرايا كان الضعف فيها يزداد. وبهذا المعنى، ليس حسان دياب حالة شاذة ونافرة وعابرة. بل ليس للحريري (ولرئاسة الحكومة) بعد اليوم سوى مثال دياب وحكومة الظلال.

لكن مأساة ميشال عون أفدح بكثير. لقد جاء رئيساً للجمهورية لسبب أول: التمرد على رئاسة الجمهورية بالذات. الانقلاب عليها والخروج من أسارها. جاء ليتمرد على رئاسة الجمهورية والإطاحة بها، بطموح "بطريركي – عسكريتاري". الأب العسكري الذي يشكل عقله ووجدانه الدستور بذاته. إرادته هي السياسة كلها. وبعيداً عن التشبيه أو المقارنة، يمكننا تخيل ماذا يحدث عند دخول الفيل الهائج إلى دكان الخزف.

أراد عون أم لا، فرئاسة الجمهورية اليوم لا تجد أي تأييد شعبي خارج الحزب العوني، فحتى في عز الانقسام والحرب، بعهد أمين الجميل مثلاً، لم تعانِ الرئاسة من فقدان للتعاطف أو الشرعية الشعبية كما حالها اليوم. بل إن رئيساً مثل ميشال سليمان، وجد ولاءً متعدد الطوائف، في ذروة الانقسام اللبناني، وكان "مقبولاً" رغم أن لا رصيد سياسياً أو شعبياً عنده قبل وصوله إلى قصر بعبدا. عدا ذلك، فالأهم أن الموقع الرئاسي نفسه فقد مكانة الحَكَم، والسوية المتعالية على صراعات القوى. وانتهى الطموح "المنحرف" لاستعادة النظام الرئاسي السابق على اتفاق الطائف، إلى "خناقات" الرئيس للاستيلاء على صلاحيات رئيس الوزراء أو لمزاحمة الرئاسة التشريعية في عملها، في مسلسل من الحزازات والمناكفات حطّمت صورة الرئاسة مجازياً، وفي الشوارع أيضاً.

بقي أن رئاسة مجلس النواب اضمحلت وذابت في كينونة شخص واحد، رئيس واحد محدد. قوته الحزبية أو الطائفية أو الشعبية تناسب تماماً تلك العبارة عن المارد الذي لن يعود إلى القمقم. "رئيس قوي" في طائفته وبين جمهوره، تجعله غير مضطر لأي انكباح دستوري، على مثال قانون القوة لا قوة القانون. ورغم حرصه على رعاية التوازن بين الأقوياء، يبقى أنه المؤسس الطليعي لظاهرة القوي الذي يحطم منصبه، ويفيض عليه.

أبعد من كل هذا، الرؤساء الأقوياء، ولكي يكونوا أقوياء لم يحطموا مكانة الرئاسات وحسب، بل كان عليهم لزاماً تحطيم البلد نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها