الخميس 2020/11/12

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

"لن نركع".. حتى الموت

الخميس 2020/11/12
"لن نركع".. حتى الموت
يجادل بعض اللبنانيين أن بلدهم ليس كفنزويلا أو سوريا أو كوريا الشمالية (موقع "المنار")
increase حجم الخط decrease

"لن تركع أمة أنجبت جمال عبد الناصر". في أواخر السبعينات، كانت هذه العبارة تصادفني على بعض جدران بيروت، حين كان لبنان كله ليس راكعاً وحسب بل مسحولاً بالأرض مضرّجاً بحروبه. أما مصر نفسها، فكانت قد "استسلمت" تماماً، فيما هي تحاول التخلص مما بقي من سياسات عبد الناصر. فبدا الشعار باعثاً على الحزن والأسى أكثر مما هو باعث على العناد والإباء. وعلى الأرجح، عبّر الشعار عن مرارة مستبطنة طالما أن مجاورة مفردة الركوع لاسم عبد الناصر توقظ في الوعي ذكرى ما حدث لـ"الأمة" في عهده، في حزيران 1967، أكثر بكثير من تذكّر الزهو الخطابي والحماسي لزعيم الجماهير العربية.

تغير الشعار الطنّان هذا بعد فترة وجيزة، حين كانت بيروت تحت حصار برّي وبحري وجوّي وتنهال عليها أطنان القذائف، فراحت تنتشر على الجدران نفسها عبارة "لن نركع وما زال فينا طفل يرضع"، حدث التحول بالضبط حين بات سقوط بيروت وشيكاً.

بعد ذلك، بعد الكثير من الهزائم والكوارث، تغير الشعار في منتصف الثمانينات، وصارت العبارة السائدة: "لن تركع أمة قائدها حافظ الأسد". لكن الأسد هذا، كما علمنا وذقنا، كان شغله الشاغل إركاع كل من لم يركع بعد، باستثناء الامبريالية والصهيونية طبعاً.

وعلى امتداد العقود الخمسة كلها، نُكبت شعوب وأجيال بمهمة رفض الركوع حتى الموت. والأصح، أنها أُخذت إلى موتها وفنائها وخراب عمرانها راكعة وخانعة وبائسة. أما الجدران فأضحت ممتلئة بصور "شهداء" رفض الركوع، طبقاتٍ فوق طبقات لوجوه راحت شيئاً فشيئاً تمّحي.. من غير أن تنتهي مقولة "لن نركع".

ونذر الحياة والسياسة في مهمة واحدة أبدية، قوامها مقارعة العالم ورفضه، وإنكار أي إمكان لمجاراته ومصالحته، على افتراض أن دأب الدول الكبرى والغرب خصوصاً هو إركاعنا يومياً بلا كلل، دون غيرنا من سائر القارات والشعوب. وهذه فرضية تأخذنا تلقائياً إلى حرب بلا نهاية، أو هي تجرنا إلى محاربة العالم من غير توقف.

وأمس، كان أمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في كلمته المتلفزة التي أضحت تقليداً سياسياً تشبه ما كان يعتمده فيديل كاسترو بخطب منتظمة تمتد الواحدة منها ست ساعات أو أكثر.. يردد مرات عدة أسماء دول، يضع لبنان في عدادها، هي كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران وكوبا وسوريا.

وميزة هذه الدول أنها الأكثر تمثيلاً لشعار "لن نركع". أو بالأحرى أن أنظمتها السياسية أو حزبها الحاكم أو زعيمها المطلق وجماهيرها المخلصة تستيقظ كل صباح لتستأنف "ممانعتها" المضنية والمؤلمة، فقراً وقسوة وموتاً وطغياناً، على نحو تكون فيه حربها المفترضة ضد الامبريالية ليست سوى حرب على نفسها. إنتاج المأساة يومياً والتألم بها ومكابدتها جحيماً وبؤساً. وسرعان ما يصير هكذا جحيم مبرراً حقيقياً لكراهية العالم أو الغرب على أنه السبب والمسبب والظالم المتكبر والمتعجرف.. فيصح حينها القول دوماً "لن نركع".

قد يجادل بعض اللبنانيين أن بلدهم ليس كفنزويلا أو سوريا أو كوريا الشمالية.. وهم بذلك يستذكرون ماضياً لبنانياً على نحو ساذج كما فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، متحدثاً عن إرث ثقافي وتجربة تاريخية، من غير انتباه إلى أن كل ذلك قد انصرم. ناكرو حال لبنان الآن يستنجدون بتهويمات وصور عن بلد متخيل قابع في ماضٍ انقطعنا عنه سياسة واقتصاداً وثقافة وقيماَ.. وهذا يذكرني بالانتلجنسيا السورية التي تتحدث عن دمشق أو حلب وفق صورتهما في الخمسينات. فهذا الوهم "الجميل" والتمسك بظن استعادة ذاك الزمن، هو الذي يعيننا على صدّ اليأس، وإن كنا نمضغ بؤسنا بلا توقف.

شئنا أم أبينا، أخذنا حزب الله إلى هناك، ولا فكاك من الدوامة الجهنمية المزينة بشعار "لن نركع".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها