الخميس 2020/10/08

آخر تحديث: 15:40 (بيروت)

في موت بيروت

الخميس 2020/10/08
في موت بيروت
عجز وسط بيروت عن أن يلتحم بالمدينة ويلحمها جسماً واحداً (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

عمدت ميليشيات منتصف الثمانينات إلى تهجير قسم وافر من سكان بيروت الغربية المسيحيين، بالتزامن مع عمليات خطف الأجانب أو حتى اغتيالهم، وبموازاة هجرة واسعة النطاق للمؤسسات والشركات والأفراد، الذين يشكلون النواة المدينية ويصنعون صورتها ونمط حياتها. وسبق كل هذا، هجرة جماعية لمعظم الفنانين والمثقفين و"المعارضين" العرب بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية.

وقد أفضت تلك الحقبة السوداء إلى انحطاط المدينة في شطرها الغربي، فيما وسطها التاريخي مدمر ومهجور تماماً. أما شطرها الشرقي فلم يكن أفضل حالاً، إن في فوضى الميليشيات أو في "نقائها" الطائفي والأهلي، رغم صونها لطابعها البرجوازي وتماسك نسيجها العمراني والسكاني.

صارت بيروت حينها "المدينة الموقوفة" (كما وثّقها ودرسها آنذاك، وضاح شرارة). وظلت تنازع و"تقاوم" إما بالنوستالجيا أو بتعبيرات وممارسات ثقافية تعلي من معنى "الكوزموبوليتية" الذي فقدته على نحو بالغ الأذى.

رغم ذلك، لم تكن فكرة موت المدينة محتملة، لأسباب كثيرة، منها ذاك اليقين أن الحرب ستنتهي لا بد. وهذا وحده كان يستبطن أملاً كبيراً أعان اللبنانيين على احتمال ما لا يُحتمل. وأيضاً، تلك القناعة الراسخة بـ"لبنان الجديد" المقبل الذي سيكون هو نفسه فكرة لبنان المعيوش والمرغوب، على ما كانه قبل 1975. لبنان الكيان والدولة وفق القيم ذاتها، سياسةً وعيشاً وصيغةً. ففي السنوات الأخيرة للحرب، كان واضحاً ذاك "الندم" الوطني على ما فرّط به اللبنانيون.

وعلى هذا ربما، قامت "أيديولوجيا" إعادة بناء بيروت وإعمارها، أي استعادة عمرانها وأضوائها ودورها وصورتها، عاصمة حيّة وافرة بحرياتها وانفتاحها ورحابتها. إلا أن هزيمة انتفاضة الاستقلال 2005 المؤكدة في أيار 2008، كسرت العاصمة وأطفأتها، فعادت بيروت الغربية إلى سطوة القسوة والعنف والترهيب، فيما ارتدت "الشرقية" إلى خوفها مجدداً لتتقوقع في صفائها الأهلي والطائفي. أما الوسط فعجز عن أن يلتحم بالمدينة ويلحمها جسماً واحداً، وهو بقي شبه مهجور طالما أنه خسر رهانه الاقتصادي على أدوار مالية وسياحية وخدماتية (وثقافية) لم تتحقق.

وجدت الحياة المدينية ملجأها في بعض رأس بيروت، وخصوصاً في مونو والجميزة ومار مخايل، إضافة إلى الاقتراح الجديد الذي ظهر في فضاء بدارو (ونلاحظ أنها المناطق والأحياء المجاورة للجامعات الكبرى). ويمكن القول ببعض المجازفة، إن "عصب" ثورة 17 تشرين في بيروت تكوّن في هذه البؤر تحديداً، بوصفها ثورة شبابية ومدنية وتوّاقة إلى قيّم الديموقراطية والدولة المدنية والليبرالية الاجتماعية، أي إلى كل ما يجعل هذه الجغرافيا مدينةً وعاصمةً، على الضد من الفدرلة الطائفية- المذهبية الحثيثة، سياسياً وديموغرافياً واقتصادياً، التي كانت الطبقة الحاكمة تسوق لبنان واللبنانيين إليها، على النحو الذي شهدناه في تحلل الدولة أخيراً.

مع هزيمة 17 تشرين المتوّجة في تفجير 4 آب، وعلى عكس ما كان سائداً حتى في الثمانينات، تبدد الأمل. بل وبدا أن المستقبل نفسه خال من أي وعد. لقد تم اغتياله بإصرار غير مسبوق. والكارثة وحدها تنتصب أفقاً.

المهزومون لا يبنون العاصمة.. والمنتصرون لا يريدون تلك العاصمة. وهذا هو موت بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها