الأحد 2020/10/04

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

نسأل حزب الله: ما هي حدودك؟

الأحد 2020/10/04
نسأل حزب الله: ما هي حدودك؟
التحول من "الشيعة كتلة ناهضة" إلى جعل الشيعة "كتلة طافرة"؟ (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

لم تجد المبادرة الفرنسية طريقها إلى التنفيذ. سدَّت عليها التشكيلة اللبنانية المتقادمة سُبل العبور. راهن الرئيس الفرنسي على صدق ما سمعه من المجتمعين في قصر الصنوبر. مصدر ثقة الرئيس الزائر خلفية سياسية وثقافية ومجتمعية، تعتبر أن المسؤول الرسمي مسؤول أمام شعبه، وحريص على مصالحه، وفات، الرئيس ماكرون، أو لعله تعمَّد تفويت الاعتقاد، بأن لا مسؤولية التشكيلة المتحكمة بلبنان ستتحكم بحساباتها الفئوية، وأن اللامسؤولين ذاتهم، لن يترددوا في التفريط بمجموع المصالح اللبنانية العامة المشتركة. تشاطر الطائفيون والمذهبيون، وتفذلك الثنائي الشيعي، والرباعي السني، والأقوياء والقواتيون والتياريون الأحرار. اعتذر الرئيس المكلف، مصطفى أديب، فتحدث الرئيس ماكرون عن سيرة المبادرة وعن سلوك من سمعها، وحمَّل المسؤولية لكل من ساهم في منع إنفاذ مندرجاتها. جاء الرد متفاوتاً من أركان المتهمين، وجاءت عبارة تنبيه تطالب الرئيس الفرنسي بالتزام حدِّه!! حسنا، لتكن العبارة منطلقاً لرسم الحدود بين أفرقاء التشكيلة اللبنانية أولاً، وبينهم وبين الآلاف من المواطنين الذين لا يقولون أقوالهم، ولا يقرُّون أفعالهم، ويطالبونهم بتدابير إنقاذية آنية عاجلة، لأن رحيل نظامهم المهترئ ما زال متعذراً. إلزم حدودك أيها المبادر بطرح الإنقاذ!! حسناً، ما حدودكم؟

حدود المؤسسة الدينية اللبنانية
نكتفي بالإشارة إلى المؤسستين الأكثر نشاطاً في الراهن، مشيراً إلى أنه:
أولاً، لقد صدر عن البطريرك بشارة الراعي كلاماً متوالياً حول حياد لبنان، وأرفق شرحه المتتالي لما أدلى به بالإشارات اللازمة، لمنع استفزاز أقطاب المذهبيات الأخرى، وشدَّد على الالتزام بسقف الموقف العربي العام حيال العدو الإسرائيلي.. جاء الرد ردّاً انشطارياً، وتفرّدت ردود بتخوين القائل، انطلاقاً من خلفيات معلومة، وبناءً على خطاب تضليلي يعتمده أبناء الخلفيات. لنناقش حدود مسؤولية البطريرك عن تجاوز حدود ما يفترضه لنفسه، ولمؤسسته، من مسؤوليات. لعلَّ النقطة التجاوزية الأهم، هي مسألة الحياد الخلافية، وللتذكير فإن المسألة طرحت في حقبات لبنانية سابقة، خاصة بعد حرب عام 1967، وخرج من الأقطاب اللبنانيين من دعا إلى حياد لبنان، ونشر البوليس الدولي على امتداد الحدود اللبنانية. لقد كان الحياد موضع خلاف إسلامي مسيحي، وكان موضع خلاف عروبي مع أبناء الفكرة اللبنانية، لذلك يمكن القول إن التوقيت، عنصر أساسي في الاستماع إلى طرح الفكرة، والمبادرة إلى رفضها، أو قبولها، أو تناولها بالنقاش المجدي المتفاعل. عليه، لم يكن التوقيت عام 1967 مناسباً، والتوقيت الآن غير مناسب هو الآخر، هذا لأن في التوقيتين قراءة استهدافية يظن بها فريق من اللبنانيين، ويعمل لاحقاً ضد من يختار التوقيت، بموجب هذا الظن. بعيداً من ذلك، هل ما تقدم به البطريرك بشارة الراعي يشكل مادة للنقاش الهادئ المستفيض؟ لا نعتقد بأن الجواب السلبي هو الرد الموضوعي على هذا السؤال.

ثانياً: جاء على لسان المفتي الجعفري أحمد قبلان كلام مرتفع النبرة، فكان أقرب إلى البيانات الحزبية، وبالمقارنة مع ما يصدر من كلام عن مصادر حركة أمل وحزب الله، أتى كلام المفتي الممتاز قاصراً عن حنكة تدوير الزوايا، أي أنه لم يوفق في إضافة لبوس التباس إيجابي، مما يترك مجالاً واسعاً لمن يريد النقاش من موقع الرفض، أو من موقع القبول، أو من موقع الدعوة إلى نقاش موضوعي يعترف بالإشكالية الحالية لمجمل التركة الكيانية اللبنانية. لقد تجاوز تصريح الشيخ قبلان هدوء مؤسسته، ولم يتسلَّح بثقل موقعها الانفتاحي الذي أسسه الإمام السيد موسى الصدر، ولم يتقدم بجردة التطورات الواقعية والموضوعية التي عدّلت موقع الشيعة السياسية في مجمل التراتبية الوطنية. أن تطرح مطالبتك المتناسبة مع تطور وضعك شيء، وأن تتحدث عن "مارد وقمقم" شيء آخر، وأن تعلن حقك في السعي إلى ما تراه حقاً لك أمر، وأن لا تدرك الممكن وغير الممكن في تحقيق ما تسعى إليه من حقوق، هو أمر آخر أيضاً. لقد تجاوز خطاب المفتي قبلان واقع أن "الشيعة كتلة ناهضة"، ليلامس جعل الشيعة "كتلة طافرة"، وهنا مما لا يساهم في معرفة معنى الحدّ الخاص، ولا معنى الحدود العامة، بل يساهم في اختلاطها وفي تداخلها، وفي فتحها على عمليات "الفرز والضمّ" المحفوفة بكل الأخطار.

اقتصار الحديث عن الحدود وتجاوزها، سياسياً وكيانياً، على المؤسستين المارونية والشيعية، مرده أنهما تكاد أن تكونا عنوانين "دينيين" للعنوانين السياسيين اللذين تخوض غمار سجالهما، نعني بهما الطائفتين السياسيتين القلقتين اليوم، المارونية والشيعية. في امتداد ذلك، وبالاتصال الوثيق معه، ماذا عن الكيانات السياسية في الطائفتين المذكورتين.

أولاً، على الصعيد المسيحي
نشير إلى موقع رئاسة الجمهورية ونفترض أن الموقع ليس مارونياً فقط، بل هو مسيحي خاص، ويتضمن الوطني العام، على ما تعنيه جملة رئاسة الجمهورية. السؤال الأبرز في هذا المجال، هل التزمت رئاسة الجمهورية بحدودها الدستورية؟ الالتزام على معنى القسم الذي ينطق به كل رئيس جمهورية منتخب. إذا كان الجواب بالإيجاب، فأين تمَّ الالتزام؟ وإذا كان الجواب مشوباً بالثغرات، في ميدان التطبيق، فأين حصل ذلك؟ ولماذا؟ ومن هي الأطراف المسؤولة عن عرقلة التطبيق؟ وما الموقف منها؟

من الموقع الشعبي، نعتقد بأن الدستور يفسَّر بجوهره وروحيته، وليس فقط بنصِّه، ويشرح، حسب المواطن، بمقاصده، وليس بحبر سطوره، ولطالما حصلت المفارقة مثلاً، بين النص الديني، وبين مقاصد الدين، ولطالما وضعت المقاصد جانباً، وجرى العمل بمقاصد "السلطان"، وهذا مما عرفته جيداً العصور التاريخية. في ميدان المقاصد، هل تمَّ الحرص على الدستور؟ أم أن الوضع اللبناني كله يقدم أدلّة وشواهد ترافع ضد القول بتطبيق الدستور، تطبيقاً نصوصياً أحياناً، وتطبيقاً مقاصدياً في أكثر الأحيان؟!

على صعيد نصوصي، تحفل الحياة السياسية اللبنانية بأخبار تجاوز الدستور، وتتبارى الوسائل الإعلامية في عرضها، ويتراشق بها أقطاب التشكيلة اللبنانية في حالة الاختلاف، ويسخرون من دعاة الحرص على الدستور في حالة اتفاقهم. هل هذا واقع متجاوز على حدود الدستور وما يلحق به من أعراف ومواثيق عيش مشترك؟ هو كذلك.

لكن التجاوز الأهم، من موقع شعبي، يبقى ماثلاً على صعيد المقاصد الدستورية، وفي هذا المجال لائحة التجاوز فاقعة الوضوح، وشديدة الخطورة، ودلالة التجاهل في السماح بها لا تخطئها عين. تسرد التجاوزات بكلمات، فالشرح غير مفيد، لأنه يقع على لا بنية تصغي إلى الشرح، لكنه، أي السرد، يرد على سبيل تعيين المسؤوليات، وليس على سبيل إبداء التذمر. واللائحة: هل منع الإفقار عن اللبنانيين مقصد دستوري أم لا؟ ماذا عن صحة لبنان؟ ماذا عن التعليم؟ ماذا عن الغذاء؟ ماذا عن الدواء؟ ماذا عن الاقتصاد؟ ماذا عن البطالة؟ ماذا عن الهجرة؟ ماذا عن الخزانة الخاوية؟ ماذا عن النهب المنظم؟ ماذا عن السيادة الوطنية المنتقصة؟ ماذا عن النسيج المجتمعي المهترئ بفعل استشراء الزبائنية السياسية والطائفية والمذهبية؟ ماذا وماذا؟ أليس في كل ذلك تجاوزاً مقاصدياً على روح ومعنى الدستور؟ تكراراً، لن تأتي الإجابة باقتراح حلول، بل ستعيد بيانات نصّية جامدة، لا تحفظ هيبة الدستور، لا في نصّه ولا في مقاصده... ربما لأن ذلك مما بات محرَّماً الاقتراب منه، في عرف التشكيلة الحاكمة والمتحكمة؟!

ثانياً، على الصعيد الشيعي
بلا مداورة، سؤال تجاوز الحدود، أو الالتزام بخطوط الفصل وعلامات الوصل الممكنة، موجه إلى حركة أمل، ثانوياً، وإلى حزب الله، على صعيد رئيسي.

أ-حركة أمل:
ذكر حركة أمل يرد كملحق باسم رئيسها، رئيس المجلس النيابي نبيه بري. فالحركة كواقع سياسي باتت مختزلة برئيسها، وحضورها مائل في حركته، وهي في التراتبية الشيعية الملموسة، تحتل الموقع الثاني بعد حزب الله، الذي باتت له الكلمة العليا في الشأن الشيعي، وفي شؤون الجمهورية اللبنانية.

على شتى الوجوه، ما يوجه لحزب الله من أسئلة حول حدوده، هي الأسئلة ذاتها التي توجَّه إلى حركة أمل ورئيسها، فالتمايز في موقع الحدود، انضباطاً أو تجاوزاً، صار شكلياً، ربما لا يتجاوز عملية توزيع الأدوار، والحرص على حيز حرية معين لكل فريق من الثنائية الشيعية. خارج حرية "التكتيك" السياسي، والمناورات المتبادلة، مع فرقاء الطوائف الأخرى، صارت "الاستراتيجية" مشتركة، وتكاد تكون واحدة، وبما يتطابق مع وزن الرئيسي "حزب الله"، ووضعية الثانوي "حركة أمل"، وثقل كل منهما في المنظومة السياسية. على هذه "المقدمة" حول واقع حركة أمل، ما حدود حزب الله؟

ب- حدود حزب الله:
لن نأخذ بتفاصيل خطاب حزب الله السياسي، ويجب الأخذ بكل حساباته السياسية، وإذا كان السؤال واجباً حول ما يريده ويستطيعه حزب الله، فإن السؤال الأوجب، ما الذي لا يريده حزب الله وما لا يستطيعه؟ وكذلك ما الذي يريده حزب الله، أو يقبل به، لكنه لا يستطيعه ولا يستطيع القبول به، من تلقاء ذات سياساته؟

لماذا هذا التفصيل في الأسئلة؟ لأننا ندرك أن حزب الله ليس حزباً "محلياً" فقط، ولأنه ليس مستقلاً استقلالاً تاماً عن مرجعيته الإيرانية. هذا التعليل التفصيلي ورد على لسان أمين عام الحزب، وتكرار الإعلان يرد في صيغ متعددة، وفي مناسبات دينية وسياسية مختلفة. إذن نحن نعتمد في شرح الوضعية على ما يعتمده حزب الله في شرح وضعه، ومن هنا، نذهب إلى الأسئلة التي نعتبرها، ومن موقع شعبي، متجاوزة على حدود صفوف واسعة من اللبنانيين، ولا تتفق مع جوهر إعلانات حزب الله عن ذاته، بوصفه "مقاومة" داخلية أولاً، وبوصفه مقاومة "إسلامية" ثانياً، مقاومة غير أممية بسبب من صيغتها الاعتقادية التكوينية.

في وصف حزب الله لنفسه بالمقاومة، يتم التجاوز، تعميمياً، من خلال مصادرة مقاومة سبقته إلى المبادرة والفعل، ويتم التجاوز، تفصيلياً، عندما يختزل الصراع العربي – الصهيوني، ودور لبنان فيه، فيجعل من لبنان كله بلداً مقاوماً، في حين أن المقاومة باتت عنواناً لحزب، ودليلاً مرشداً إلى مصالح كتلة أهلية لبنانية، قبل غيرها من سائر الكتل.

استطراداً مع ما تقدم، وعلى نهج إعلان المقاومة نفسه: هل المقاومة فعلاً وطنياً عاماً، أم سلوكاً خاصاً؟ هذا ليس سؤالاً بديهياً في عرفنا، وإن كان كذلك في عرف أصحابه. هل بناء الاجتماع حول مهمة وطنية عامة، مهمة للمقاومة أم المساهمة في تفريق صفوف الاجتماع يتقدم على مهمة التجميع الوطني؟ وفي مخاطبة المحيط العربي، لبنان عربي أولاً؟ أي هل تحضر المصالح المشتركة العربية اللبنانية؟ أم تحضر مصالح الجوار العربي، الذي هو إيران في الحالة الشيعية، وغيرها في حالة الطوائف الأخرى. إذا كانت عروبة لبنان أولاً، فكيف تفسّر المساهمة في الحروب البينية والأهلية بين العرب؟ وكيف يفسّر تبني خطاب "الآخر الخارجي" في مواجهة الداخل العربي الذي هو عمق لبنان ورئته؟ وإذا كانت الإسلامية نعتاً للمقاومة عندنا، الآن، فكيف يكون استنفار المذهبيات الأخرى، ومنها المذهبية السنية العربية على وجه الخصوص؟ وهل في ذلك ما يفيد "الإسلامية المقاومة"؟ ثم لنسأل، من تقاتل الإسلامية بشقيّها؟ هل الأميركي؟ أم الغرب عموماً؟ الجواب تقدمه كواليس السياسات الدولية، ومنابرها، وهذه تفيد أن ودّ "الاستكبار العالمي" مطلوب في كل "الديار الإسلامية" كلها، من دون استثناء مذهب من المذاهب. وعند الانتقال إلى الداخلي اللبناني، ومن خلال اللغة الشعبية المباشرة؛ كيف المقاومة والجوع قد دخل البيوت؟ والمرض يتوالى فتكه تباعاً؟ والعلم تقفل سبل القدرة على تحصيله؟ والشحن الطائفي تستعر ناره؟ وطلب الاستتباع تتبلور نصوصه؟ والتبعية لا حياءَ في إعلانها؟.. كيف المقاومة في كيان منقسم على ذاته؟ وإلى متى افتراض القدرة على ضبط انفجار القسمة بسطوة السلاح؟ في انتظار الأجوبة، نرجح عدم الحصول على إجابات عملية تعاكس مسار حزب الله التجاوزي، وإذا كنا نلتمس العذر لكل مكوِّن لبناني، من سياق التكوين ذاته، فإن حزب الله غير معذور حسب اعتقادنا، لأنه الأقدر، لو أراد واستطاع، على تقديم عدد من مفاتيح أبواب المسائل اللبنانية المغلقة.

حزب الله، نسائله كفرد باسم الجمع، ما حدودك؟ ننتظر قائمة بها، هذا، وتكراراً، لأن لبنان لن يبقى إلا بتبيان حدود المشاركة، وحدود الالتزام بها، بوضوح تقتضيه شراكة الالتزام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها