السبت 2020/10/17

آخر تحديث: 16:49 (بيروت)

سنة على الانتفاضة: الدويّ الآن مسموع من الأعماق

السبت 2020/10/17
سنة على الانتفاضة: الدويّ الآن مسموع من الأعماق
المتكلمون في القاعدة كانوا لا يريدون أن يشهروا سحنهم وأسماءهم (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
لا أعرف بأي دافع تردّني انتفاضة 17 تشرين إلى الوراء، إلى سبعينات اليسار اللبناني. لم يكن هذا اليسار يومذاك جماهيرياً. وهو، بالتأكيد، لإحساسه بذاك، لم يترك سوى برنامج خيالي واستراتيجيات نظرية. يمكن القول أن إرث هذا اليسار الثقافي كان أكبر منه. كانت الحرب الأهلية مجالًا مناسبًا له، لكنه لم يفعل سوى قبول  طفرات الواقع الذي لم يلبث أن اختنق فيه، تاركاً الإرث الملحمي الخيالي على أرض الواقع. التقط مثلث العنف والعداء للغرب الذي تأسس عليه من كان ميراثهم التاريخي الملحمي  فطرة فيهم، تجعلهم قادرين على التقاطه وتحويله والبناء عليه. وجد بالتأكيد، في نهاية الحرب وفي غليانها، هذا الوريث الذي احتاجه ليغرسه في كيان موروث بدوره. لا بد أن حزب الله استطاع أن يحوله إلى فطرة لواحدة من أكثر الجماعات اللبنانية استعداداً له. هذا الكلام لا يعني أن حركة 17 تشرين بنت مجدداً على هذا الإرث، إنما يعني انها نقحته، على نحو أصبح هذه المرة ما كانه قبل أن يغرق في الحرب الأهلية. لقد عاد لكل الطوائف كما أضاف وعياً ديموقراطيا ليس من إرث اليسار في المنطقة كلها. بل همد مع انهيارات الربيع العربي الذي قد يكون أباً متأخراً لانتفاضة أو ثورة 17 تشرين.

تضاعيف الواقع
ولدت 17 تشرين في وضع أقل ما يقال فيه أنه ضاغط تماماً. كان النظام يمر حينذاك بإعادة توازن للقوى التي تتشابك فيه، محاولة استنفرت هذه القوى وجعلتها جميعها في حال من الارتباك والضيق والحرج في عملية إعادة التموقع. ناهيك عن الأزمات التي تحدق بالبلد من كل النواحي، ولا داعي لإعادة تعدادها وهي التي تتفاقم في كل وقت. قد يمكن القول أن هذه الأزمات ولّدت الإنتفاضة أو الثورة، لكن أمراً كهذا لا يحدث على الفور. لا بد أن وراءه أموراً كانت تعسّ بقدر من الصمت من دون أن نسمع لها دوياً. ولم يكن هذا التواري غير المسموع إلا صدى لكونها تغرق في تضاعيف الواقع وفي تشابكاته القادرة على امتصاصها. كانت هناك أمور جوهرية نتعجب من أنها لا تفعل كما ينبغي. العلاقات الطوائفية مثلاً التي باتت أكثر فأكثر تغدو مهينة لجيل من الشباب الذي صار أكثر امتعاضاً من التبعية. المثال الديموقراطي الذي صار مع الوقت أكثر إلحاحاً. الأزمات المتفاقمة التي تفضح، على نحو متزايد، هلهلة السلطة وانتهاء صلاحيتها وعتقها ومخالفتها لزمانها ولعالمها. لا بد أن كل هذا، رغم تعجبنا من كوننا لا نلحظ ذلك ولا نلاحظه إلا بمقدار، ولدى جمهرة قليلة من المثقفين والمنسلخين، بقلة، عن مجتمعاتهم. كانت 17 تشرين لهذه القلة التي ننتمي إليها مفاجئة. كان في الأمر ما يشبه الإعجاز. لقد سمعنا فجأة هذا الدوي الغائر من زمن والمتظاهر، من دون قصد ولا وعي، بأصوات بلدية ومحلية ليست من جنسه ولا تفعل سوى أن تعمي عليه. لقد سمعنا الصوت الحقيقي للاعتراض، من دون أن يتموه ذلك بصخب مشبوه المصدر والمكان. سمعنا الصوت الحقيقي الذي وصل إلينا مختلطاً ومندفعاً وصافعاً ومتشنجاً كما هو في مصدره الأول. صوت إذ انطلق وحده من دون أن يختال به أحد، أو يتسمى بأحد. المتكلمون في القاعدة كانوا لا يريدون أن يشهروا سحنهم وأسماءهم. كانوا هكذا ينفرون، إلى حد الإختفاء، من سيستام قائم على الوجاهات والخدميات ويتركب صعوداً، من الأسفل إلى الأعالي على خضوع واستتباع متدرجين. لقد عاب كثيرون، بمنطق أكيد، على الانتفاضة أو الثورة انها لم تعلن قياداتها ولم تقدم قيادات مسماة، ولا شك أن هذا النقد لم يأت من فراغ. لكن ينبغي أن نلاحظ أن رجم قيادات السلطة ونعتها بأسوأ الألفاظ، حتى الشتيمة، لم يأت من فراغ. إن الخوف من المماثلة مع أركان النظام، والاحتقار المتمادي لهم بوصفهم عصباً متآكلة فات وقتها.. كان في حقيقة الأمر طرداً لهم من الحاضر ومن الواقع. لقد عومل هؤلاء هكذا على أنهم نفايات ولا يستحقون أي رحمة من هؤلاء القادمين من بعيد إلى الحاضر وإلى التاريخ.

أكبر من أن تُسأل
لم يكن هؤلاء بحاجة إلى أي شهادة. لقد أتوا من التاريخ إلى المكان الذي يستحقونه والذي ينتظرهم. لم يكونوا بحاجة إلى أي حجة أو ذريعة. لقد كانوا هنا بتكليف من الحاضر والتاريخ. لا يهم هنا العدد، ولو أنه لم يكن قليلاً، فليسوا طائفة. ولا منطقة. إنهم الشعب. بل هم الطليعة الأولى لهذا الشعب، والعبرة بمن يقفون خلف صفوفهم ولا بد أن يصلوا، فالدوي الآن مسموع من الأعماق، ولن يتوقف هديره بل سيعلو ويعلو ويكفي أنه وصل. لم يعد في قدرة النظام أن يمتص المشاكل والأزمات. لم يعد في وسعه أن يلتف عليها وأن يحولها إلى داخله. لقد خرجت منه وتسربت من تشابكاته وعلاقاته طلائع جيل آخر، هو بداية نضوبه وانكماشه.

أظن أن هذا هو الذي استوقفنا في انتفاضة 17 تشرين. لقد كانت، بصورة دائمة، أكبر من أن تُسأل أو تقاس أو تُحاكم إجرائياً. كان هنا التاريخ، كان هنا المستقبل. ومهما جرى بعد ذلك، سواء في الحجم أو الزخم، فإن المسألة تبقى هنا. لقد مر التاريخ. ومهما حدث، مهما كانت محاولات الالتفاف. مهما احتد الظرف وعلا اليأس وصارا أكبر من الطاقة والاحتمال، أكبر من النهوض إليهما ومجابهتهما، فإن واقعة 17 تشرين فتحت الطريق إلى مسار آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها