السبت 2020/10/17

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

ذكرى تشرين الفاصل بين عالم انهار وعالم مجهول

السبت 2020/10/17
ذكرى تشرين الفاصل بين عالم انهار وعالم مجهول
علامة من أقوى العلامات في تاريخ لبنان الحديث (عزيز طاهر)
increase حجم الخط decrease
تبدو السنة الفاصلة بين 17 تشرين 2019 و2020 كأنها دهر لا ينتهي. بدأً من الانتفاضة الرائعة والحاملة لكل الآمال، مروراً بالأزمات السياسية المتتالية والمفتوحة على الفراغات الحكومية، ومن ثم بالانهيار الاقتصادي والمالي المفتوح على الكارثة الاجتماعية المخيفة، كما بطيف الجائحة المخيّمة فوق كل فرد وبيت، ووصولاً إلى انفجار المرفأ الرامز لانفجار كل شيء حي في هذا البلد. أشهُر كدهرٍ من الآلام والصدمات والجروح والإحباطات المفتوحة على اللانهاية. كأنها نفق من دون مخرج وفجوة من دون قعر.

دهر خلاله ما بدأ في الخريف الماضي كبذور ربيع آتٍ لا محال بقي من دون إزهار، و تشتتت على طريقه صراخات الحياة المالئة الشوارع والساحات، تاركةً المكان إلى صمتٍ وخواء يلف المدن والبلدات يكاد يشبه صمت القبور وصقيعها.

ماذا حلّ بالثورة ولماذا أو كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟

متاهات الثورة و"تانغو" المنظومة
قد يأتي الجواب مجازياً عبر مقابلة مشهدين أو ثلاثة ومقارنتها. بعد الأسابيع الأولى من الثورة المحتفلة، الصاخبة بالـ"هيلا هيلا هو" وبالشعارات الخلاقة والدمثة، سقطت حكومة سعد الحريري المختزنة والجامعة لسائر قوى المنظومة وأطيافها. ولم يكن حينها مهماً تحديد إذا ما كان الشارع قد أتى برأسها أم أن القيّمين عليها فضّلوا التنحي جانباً لتمرير العاصفة والحد من الخسائر وتجنب المواجهة، انتظاراً لظروف أهدأ للعودة. ما همَّ وقتها كان الشعور أن للشعب إرادة وفعل، وأن ما كان خارج الممكن بات مسموحاً ومتاحاً، على أن يتكرّس بتثبيت ميزانٍ جديد للقوى بين المنظومة الملفوظة والناس. تضعضعت السلطة وبدت دائخة تحت وقع الضربة المفاجئة، وبحثت بالتي هي أحسن عن ردّ متلعثم ومتردد لبس وجه واسم حسان دياب، على شكل خشبة نجاة مبرية ومهترئة. فما كان للضياع والتضعضع إلا أن ينتقل إلى الطرف المنتصر لتوّه، لتمتص الانتصار ولتبدأ الهجمة المضادة للمنظومة الخاسرة في الشوط الأول فقط، بالنقاط. ففي حين انبرى جزء من جمهور الثورة إلى دكّ الرئيس الجديد للحكومة بسلاح التهكّم على تسريحته أو على سيره الذاتية وكتب إنجازاته المضحكة حقاً، دخل جزء آخر من قوى الثورة في متاهة اعتبارات، كإعطاء الفرص أو الرهان على منسوب المكوّن التكنوقراطي -الزائف أصلاً- في الحكومة المولودة تحت أقدام الشارع، والمتخبطة بالطارئ المالي وبتناقضات قوى السلطة حول مسألة إنقاذ ما تيسر من ثرواتها وثروات من تمثل. إلى أن جاء الانفجار، ليفسح المجال أمام مشهد آخر جديد، تمتزج فيه روائح الدم والدمار مع العفن المتسارع لِبُنى الدولة والمجتمع كافة. سقطت حكومة حسان دياب، تحت صخب الشارع مرة جديدة؛ ومرة جديدة، بقيت قوى الثورة دون القدرة على تلقف المبادرة، أو حتى دون القدرة على اقتلاع مكان يذكر، في التطورات التي أفرزتها كارثة المرفأ وما تلاها. لا موقف يذكر من المبادرة الفرنسيّة، من التانغو القديم-الجديد بين الثنائي والرباعي وما بينهما، من تعيين مصطفى أديب الذي اقترب من التحوّل لبطل الثورة لدى البعض من جهابذتها، وصولاً إلى مناورات عودة سعد الحريري عينه، الذي أطلقت حكومته -ووزيره بالأخصّ- شرارة الانتفاضة الأولى التي نحتفل بمرور سنة عليها الآن، والتي اعتبرت إسقاطه بمثابة أحد أبرز إنجازاتها.

قد يأتي جواب آخر، أكثر تحليلاً، عبر فحص الواقعين المتصارعين، واقع السلطة/المنظومة وواقع الثورة/النقمة الشعبيّة.

ضعف الدولة قوة السلطة
غالباً ما يختلط أو يضيع عند الكثيرين أن ضعف الدولة في لبنان -وهي ربّما من أضعف الدول وأفشلها في العالم- لا ينفي، وربما يفسر حتى، أن السلطة السياسية المتمثلة بالنادي السلطوي المغلق لكن المتعدد والمترامي الأطراف، أو ما نسميه الطبقة السياسية بجناحيها الحاكم والمعارض معاً، هي من أقوى الأنظمة الحاكمة وأصلبها في العالم. قوّتها من ضعف الدولة طبعاً، ولكنّها نابعةً أيضاً من تشعّبها وترسّخها وتغلغلها في النسيج المجتمعي بأشكال عديدة وقديمة، كما من تعدّدها الطائفي الذي يسمح لها، حين تبرز لحظات الخطر عليها من قبل المجتمع، أن تُعيد له وعليه وضدّه كرة النار نفسها، لتغرقه وتشله بالانقسامات عينها التي تسمح لها بمحاصصة كل شيء في البلد، والتي هي نفسها أسباب ومصادر تذمّر الناس منها في الدرجة الأولى. من سائر أدوات وسلاح الثورة المضادة، الرائجة و الناجعة في المحيط العربي منذ افتتاح دوامة الثورات العربية منذ عقد تماماً، هذا بالتحديد هو السلاح الأفعل في الواقع اللبناني. لا رمز واحداً يُطلب رأسه في لبنان، لا ديكتاتور واحد يُطلب إسقاطه كي يسقط النظام؛ بل أخطبوط متعدد الأذرع والرؤوس، مترامي الأطراف، وليّن الجسم إلى حدّ الزئبقيّة، تصل الحيلة معه إلى حد تأجيج وإعادة إنتاج تناقضاته وصراعاته الثانويّة لإحالتها تالياً وعكسها على المجتمع ليجترّها، ويعيد إحيائها بشكل باڤلوڤي.

شياطين المجتمع وشبح الحرب
من جانب الثورة، شكّل شعار "كلّن يعني كلّن" محاولة جواب مبكّر على هذه اللعبة المعهودة والممجوجة منذ أكثر من قرن، وكان من الإمكان عبره إنقاذ المجتمع من نفسه ومن شياطينه العاديّة، عبر توحيد السلطة بشكلٍ قسريّ من جانب الناس، مع الإقرار باصطناعيّة هكذا توحيد، لكن مع الاستفادة من لحظة واحدة من هذه اللحظات النادرة في تاريخ لبنان، التي ينحرف فيها الانقسام من عامودي إلى أفقي، وهي لحظات لا تدوم كما يعلّمنا التاريخ الاجتماعي لهذا البلد المعدوم. وفعلاً، كانت الشياطين أقوى مرّة أُخرى، وما كان على المنظومة إلا أن ترمي عظْمة الانقسام الآذاري السابق، حتّى تنكبّ عليه أطياف الثورة لتعيد الشارع شوارع والجمهور جماهير. كان يمكن طبعاً للسلطة/المنظومة أن تلعب على مروحة أسلحة الثورة المضادة الأخرى، من الميل الطبيعي للمجتمع -اللبناني أكثر من سواه- إلى الخمول السياسي، أو إلى التهويل بشبح الحرب الأهلية والتخويف منه؛ لكنها اكتفت بلبس ثوبها المعتاد، وبإبراز خطوط تماسها، حتى ينتظم الجمهور ويصطفّ عليها، كي يلعب من جديد دور الكومبارس في مسرحيّة قديمة متجددة، باتت مملة حتى الإماتة الجماعيّة.

إلى ذلك تأتي النواقص ومكامن الضعف التي بات تقييمها معروفاً ومعهوداً. شارع بلا وجوه وبلا هيكلية، ثورة من دون برنامج واضح وبلا شرعة عامة. هذا معروف، و هذا كان إراديّاً بل مطلوب؛ و لربّما كان واجباً في اللحظات الأولى من الانتفاض، لتفادي الشرذمة والتشتيت بالأهداف، ولعدم إعطاء السلطة مجالات اللعب على النرجسيات -وما أكثرها- وتماهياً أيضاً مع الجيل الجديد من الحراكات الجماعيّة في العالم والإقليم، والقائمة على الأطر التجميعيّة الفضفاضة ومن دون هرميّة أو رأسيّة، والمكتفية بمطلب "فلّوا" (إرحل) قبل أن يبدأ أي كلام سياسي آخر. هنا أيضاً، انقلبت نقاط القوة إلى مكامن ضعف، وبرزت، كما في أقطار أخرى، حدود العفويّة الشعبيّة إن تُرِكَت على غاربها.

كان لا يزال حينها ممكناً للثورة أن تعالج -أو تقلّص أقلّه- هذين العجزين، العجز البرنامجي والعجز القيادي البشري، خصوصاً إن كان في نيّتها الثابتة البقاء عليهما كركيزة وضمانة استمرار. كان ذلك ممكناً شرط القيام كخطوة تالية بتمرين آخر يعنيها ويعني جمهورها الذي وصل إلى حافة الضياع والتضعضع، عبر مواجهة صريحة ومقبولة لنقاط الاختلاف فيما بين أطيافها ومكوّناتها، مع محاولة تنظيم أو تأطير سبل الاختلاف حولها بالحد الأدنى. بدل ذلك، وعلى مرّ الأشهر وعلى وقع اشتداد الفاجعة المعيشيّة، صارت مواضيع وإشكاليّات مثل الانتخابات المبكرة وضرورتها أم لا، مثل توصيف طبيعة و حجم الكارثة الاقتصاديّة وسبل الخروج من أتونها بعد تحديد المسؤولين عنها والخسائر التي أوقعوها بالناس وللبلاد، أو مثل موضوع حزب الله وسلاحه وحدود وكلفة مقاومته أم سطوته على الدولة وسطوه على المجتمع، صارت كلّها نقاط تجاذب وافتراق، حتى أوصلت التباعد والتنافر مؤخراً إلى حدود التخاصم والتخوين. ما أمكن القول ربّما، أن العداء المستحكم بين بعض أطراف الثورة بات أعمق وأحدّ من ذاك الذي كان من المفترض أن يكون ويتصلّب بين الثورة والمنظومة كلّها...

البذور والأسئلة
سنة مرّت على لحظات 17 تشرين الجميلة والواعدة. 

مرّ فيها الكثير الكثير على اللبنانيين وأنهكهم. شكّلت لحظات العيد والفرح المتفجّر في شوارع وساحات البلد علامة من أقوى العلامات في تاريخ لبنان الحديث، ولا شكّ أنها ستبقى كنقطة فارقة وحاسمة لكثيرين، فاصلة بين عالم انهار شبه كليّاً وعالم لا تزال معالمه مجهولة ومفتوحة على كل الأفق والاحتمالات.

من هذه الأشهر الطويلة ومن هذا الزمن المكثّف، ستبقى أشياء وتتناثر بذور، علّها تزهر يوماً. لقد تبلورت الأسئلة الموجعة، وتوضّحت الإشكاليّات المؤلمة؛ لم تتأتّ بعد الأجوبة المرادة، ولم تتشكّل بعد الكتلة التي ستحملها يوماً -لا محال. بات اللبنانيون جميعاً مدركين للكابوس المتحكّم بهم؛ بات عليهم إنتاج حلمهم بوجهه، وتجديد 17 تشرين كلّ يوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها