الخميس 2019/08/22

آخر تحديث: 21:33 (بيروت)

أنطوان حرب يتفقد وصيته في معتقل البوريفاج

الخميس 2019/08/22
أنطوان حرب يتفقد وصيته في معتقل البوريفاج
خرجتُ من البوريفاج كأنني للمرة الأولى أبصرُ وأنتبه أن في وجهي عينان (Getty)
increase حجم الخط decrease
نشرت "المدن" حلقة أولى من شهادة أحد مؤسسي "التيار الوطني الحر"، الراحل أنطوان الخوري حرب، عن مكوثه أياماً عشر معتقلاً لدى المخابرات السورية في البوريفاج سنة 1994، وهنا حلقة ثانية. والشهادة يتضمنها كتاب "موت الأبد السوري"، ونستعيدها اليوم في مناسبة رحيله المفاجئ.

***
حملوني من غرفة الكرسي الكهربائي، ورموني في زنزانتي. وجع رهيب في جسمي مع نوبات من الغثيان، وبلا إدراك في أي زمن أنا وفي أي مكان، ولا أبصر سوى غبش به ثقوب سوداء...ثم تلاشيت.

لم أستطع الوقوف لأذهب معهم مجدداً إلى غرفة التحقيق. حملوني وساروا بي. أحدهم قال لي: ليش ما أكلت أكلك ولاه حِيوان، وليش ما شربت المي، شو جاي تموت عنا هون، يا ابن الحِيوان؟! وقال آخر: أنت كلب ولاه، كلب وراسمالك كلب عندنا هون. قررت أن أقاوم، وتذكرت ما سمعته من حكايات التعذيب في السجون السورية، وكم من الأشخاص قضوا فيها. حدست أنهم سيستمرون في تدميري وسحقي حتى الموت على الأرجح، فقررت أن أوقاومهم حتى نهايتي، علّني أموت راضياً عن نفسي.

نحن نكرهكم
في النهار السابع علمت من أقوال الحراس الذين قادوني إلى غرفة التحقيق، أن المحقق مقدم. حين دخلت الغرفة وسمعت صوته يقول: انشاالله اليوم تكون أحسن من مبارح، وحابب تتعاون معنا. نعم سأتعاون - جاوبته - لكنني أريد أن أقول بعض كلمات. شلون تريد تحكي، قلي شلون؟ قال المحقق.

فجأة وعن سابق تصور وتصميم وإرادة قلت له: نحن لا نحبكم. الآن عرفت لماذا لا يحبكم اللبنانيون. قبل وصولي إلى هنا كنت أحسب أننا نكرهكم لأنكم تحتلون بلدنا وتنهبونه، لكنني الآن أفهم أننا نكرهكم بقوة هذا العذاب الذي تنزلونه بي حتى الموت، هنا في هذا المكان الذي أجهل أين يكون ولا أعلم لماذا وصلت إليه. لا يهمني أن تقتنع أو لا تقتنع بما أقول. التعذيب الذي تنزلونه بي لن يفيدك في شيء. لذا أرجوك اعدمني فوراً، اعدمني الآن. استشاط المقدم المحقق غضباً وصرخ: أنتو يا كلاب ضد سوريا؟! ضد العروبة؟! حلّك تفهم يا حِيوان أن سوريا قدركم في لبنان. لسه ما حابين تفهموا أنتم والحِيوان تبعكم أن سوريا قدر لبنان؟!
ودخل الحراس غرفة التحقيق وانهالوا عليّ بأيديهم وأرجلهم طوال أكثر من ساعة، ثم حملوني ورموني في زنزانتي. في ما تبقى من ذلك النهار وفي ليلته أخذوا، كلما وصل أحدهم في موعد خدمته، يفتحون له بوابة زنزانتي، فيضربني ويضربني حتى يسأم أو يتعب وينصرف. بعد ضربةٍ قوية سدّدها أحدهم بحذائه العسكري إلى فمي، تحسست بيدي فكي الأسفل، فانتزعتْ أصابعي في سهولة أسناناً ثلاثاً منه.

فتحوا باب زنزانتي في النهار التاسع، فلم يركلني أي منهم بقدمه، بل جرّوني مباشرة إلى غرفة الكرسي الكهربائية. أجلسوني على الكرسي وأوثقوا جسمي اليه. وضعوا سماعتين على أذنيّ وميكروفون أمام فمي، وخرجوا، فبادرتهم بأقذع أصناف الشتائم التي في ذاكرتي ومخيلتي.
أطلقت صوتي قوياً صارخاً معولاً، وبطاقة الحقد كلها التي غرستها ضرباتهم وكلماتهم في جسمي وروحي طوال الأيام الماضية، نثرت شتائمي عليهم، من رئيس جمهوريتهم وأهله حتى أصغر نفر في جيشهم ومخابراتهم. عاجلوني بصدمات كهربائية عالية الشحنات، فانقطع صوتي. حين استعدت وعيي في زنزانتي، لم أستطع تقدير الوقت الذي استغرفته غيبتي مغمىً عليَّ. مددت يدي ولمست رأسي، فإذا خصل من شعري تتساقط بين أصابعي، كأنها خصل من شعر شخص آخر. لمست صدري فتساقط كذلك قسم من شعره في يدي. وفيما جسمي كله يمضي في تلاشيه وانحطاطه، غبت مجدداً عن الوعي، وراودني إحساس خاطف بأنني اقتربت من نهايتي. صور من حياتي راحت تنساب في رأسي وتتلاحق بلا بداية ولا نهاية... وجوه أهلي وأصدقائي في المدارس والجامعة ورفاقي في النضال... وأخيراً ابن أخي الصغير الذي كنت مولعاً به، وسميناه باسم الجنرال ميشال عون.

فجأة انهال عليّ شعور عميق بالرضا عن نفسي. ها أنذا ذاهب إلى موتي راضياً مرضياً، ليس بإرادتي، بل بقوة ذاك القدر الأعمى  الذي قال المقدم المحقق السوري إن عليّ الإقرار به وسواي من اللبنانيين جميعاً: سوريا قدر لبنان الذي لا مهرب منه ولا رادع له.

الوداع الأخير
كذاهب إلى إعدامه فكرت كيف يمكنني إيصال نوع من الوصية إلى أهلي الذين غمرني فجأة شعور عميق جارف بحبهم، وحب الوطن، وطني، وإذا بجبال بلدتي تنورين تمثل أمام ناظري جميلة، فقلت إنها لي وإنني لها، وجميل أن تبقى جميلة وحرة.
كنت مدركاً أنني أعزي نفسي وأودعها الوداع الأخير، مؤدياً على انفراد شعائر إماتة خاصة وشخصية ولا يشاركني فيها أحد، من دون أن أعلم مكان وجودي، وماذا يفعل كل من أعرفهم ويعرفونني في العالم الخارجي وأين هم الآن.

قطعة صحن بلاستيك على أرض زنزانتي، نبهتني إلى وسيلة تمكنني من ترك أثر ما يدل على أنني كنت يوماً في هذا المكان المجهول. أمسكت كسرة الصحن وحفرت بها على الجدار فوق الباب الحديد: أنطوان الخوري حرب، شهر 11 سنة 1994. وحين فكرت أن أحفر اسم مكان، تذكرت إجاباتهم الدائم كلما سالتهم أين أنا: أنت في جهنم الحمراء... وسمعت وقع خطىً تقترب من زنزانتي. تلقائياً كعادتي وجهت كتفي نحو بابها، لأتلقى به ركلات أقدامهم. لكن من فتح الباب فاجأني، فبدل ركلي، ناداتي: تفضل أخ أنطوان. استغربت هذه الكلمات التي صارت منسية كالعالم الذي غادرته وانقطعت عنه منذ أيام عشر. لكن الكلمات هذه وهدوء نبرة صوت قائلها وحيادها زادتني يقيناً باقتراب نهايتي، وفكرت: هكذا يُنادى الذاهبون إلى الإعدام. أرجوك أريد أن أبعث خبراً لأمي بأنني كنت هنا عندكم، قلت للضابط. صامتاً حدّق في عينيّ، كأنه يقول لي إن أمنيتي هذه سيان إن تحققت أو لم تتحقق.
كل شيء أخذ يزيدني يقيناً بأنني ذاهب إلى نهايتي. قبل أن يدخلوني إلى غرفة مصعد، قال الضابط لأحدهم أن يحضر لي بيجاما. إنها لباس الإعدام، فكرت. حين أمر بغسلي بعد خروجنا من المصعد، قلت إنها غسلة الموت. في بهو فسيح قرب المصعد، وجهوا إلى جسمي العاري إلا من الكيلوت، أنبوباً من الكاوتشوك، فاندفع الماء من فوهته غزيراً وراح ينهمر عليّ بارداً، فأحسست بصقيع لم يطفئ الحمى الداخلية في جسمي المحطم. البيجاما التي أحضروها وأمروني بأن ألبسها، كانت عسكرية وأضفتها إلى أشياء ما قبل الإعدام وترتيباته.

جامع جامع
وأدخلوني إلى مكتب فرشه وثير ومزين بشعارات بعثية وعلم سوريا ونسرها، وبصور حافظ الأسد وابنه باسل.
خرجوا جميعهم وتركوني مع شخص في ثياب مدنية، فنظر إلي وقال: ابرك، ابرك، فجلست على مقعد مستغرباً مندهشاً (بعد أيام رويت قصتي هذه لسامي خوري الذي التقيت به في حمام المعتقل، فقال إن رجل المكتب الفسيح هو جامع جامع).

سألني الرجل إن كنت شربت قهوة، وهل أريد سيجارة؟ وسرعان ما احضر رجلٌ القهوة والسجائر. شعور عميق بالراحة غمرني، فرحت أخمد وأتلاشى غير مدرك إن كان نعاس أم خمول هذا الذي استبد بجسمي كله وحواسي، وتركني واهنا واهيا كطيف خارج الزمن والوجود.

قال لي رجل المكتب الفسيح: ولو يا أنطون، أنت ابن عيلة، شو هالحركات اللي عم تعملها؟ لاحقلي ميشال عون وماشي وراه! مبيّن عليك شاب ابن عيلة... شو رح يفيدك ميشال عون؟!
مندهشاً خاملاً سمعت كلماته التي كانت تصلني من بعيد، ثم قال: اكتشفنا أن عملية الحدث نفذها العكاريت من جماعة عرفات، وأنت سوف تذهب إلى بيتك. خلص ع البيت؟! قلتُ، فجاوبني متجاوزا سؤالي: بس بدي منك شغلي، نريد أن تتعاون معنا، ولا لزوم لأن تحكي شو صار معك. اشكر ربك أنك طلعت من هون طيب، يلا قوم امشِ... بس ما تجرّب بعد اليوم تتشيطن، قعود عاقل ودير بالك ع شغلك. وإذا مش عاجبك هالبلد، بنصحك تسافر، ونحنا بنساعدك إذا قررت السفر. وأخيرا قال في نبرة حاسمة: سوريا لا تُشتم في لبنان، لا أحد يستطيع أن يشتم سوريا في لبنان، لا أحد. ثم تقدم من الباب وفتحه قائلا لعسكري يقف خارجاً أن يأخذني. أمسك العسكري يدي وجرني خلفه وأخرجني من المكتب الفسيح حتى مدخل المبنى.

أرض البشر
الضوء باهر ومدوّخ في الخارج، والعالم فسيح. كأنني للمرة الأولى أبصر وأنتبه أن في وجهي عينان. كأنني لا أعرف من أنا. فجأة رأيت المقر الرئاسي الموقت في الرملة البيضاء، فأدركت أنني كنت في مقر المخابرات في البوريفاج. من بعيد لمحت ضابطاً في الجيش اللبناني أعرفه، فلوحت له بيدي. رآني وحدق بي، لكنه لم يبادلني تحيتي، ربما لأنه خشي من معرفته بي، أنا الجندي السابق في الجيش أيام ميشال عون، والخارج من مركز المخابرات السورية مرتدياً بيجامة الاعتقال المهترئة، وفي قدميّ مشاية من الكاوتشوك، وشعري مشعث، ومحطم الأسنان، وأمشي مهدما ضائعا لا أعرف إلى أين ولا في أي اتجاه.
مشيت مبتعدا من مقر المخابرات والمركز الرئاسي الموقت. وحين عبرت قربي سيارة أجرة، أشرت لسائقها، فتوقف. قلت له إنني ذاهب إلى الروضة، قرب السبتية، وإنني أخذه تاكسي، فجاوبني: طلاع يا ابني طلاع. كان السائق في حوالي الستين، ولهجته جنوبية، وفاجأني بقوله: أكيد كنت مسجون هون، الحمد لله عالسلامة، منيح إنك طلعت طيب، ربك بيحبك. وروى لي أن صهره أمضى شهوراً هنا عندهم يتهمة أنه مقرب من البعث العراقي، وخرج معطوبا، لا يسمع في واحدة من أذنيه ولا يبصر في عين من عينيه. ثم قال ثانيةً: اشكر ربك يا ابني لأنك تسمعني وتراني، ولازم تروح تشوف حكيم.
في الطريق، حاولت جاهدا أن أشحذ تفكيري وذاكرتي المشتتين واركّزهما، لأرشده إلى الطريق المؤدية إلى الروضة، حيث بيت أهلي. لما وصلت إلى أمام بيتنا، رجوته أن ينتظرني لآتيه بأجرة التاكسي، فلم يرضَ. سألته عن اسمه ورقم هاتفه لأتصل به لاحقا، فقال: خلص يا ابني، الله معك، روح عند أهلك، ارتاح ما يهمّك.

كان باب بيتنا مفتوحاً، ورأيت أمي تكنس الشرفة الأرضيّة أمامه، فوقفت في مكاني بعيداً منها. حين انتصبتْ واقفة نظرت إليّ، وكادت أن تشيح وجهها عني، قبل تكرارها التحديق بي مرات ثلاثاً لتتأكد من أنني حقاً ابنها أنطوان المختفي. وركضت نحوي وارتمت عليّ تبكي وتنوح وتصرخ، فأخرج صراخها أختي من البيت. جامداً واجماً تحركتُ بين أمي وأختي إلى الممر الداخلي، فلمحتُني في المرآة شخصاً غريباً عني: بقع صغيرة عارية من الشعر في رأسي، ثلاث أسنان أمامية مفقودة من فكي الأعلى، بيجامة السجن المهترئة على جسمي المحطم الهزيل الذي فقد نحو 15 كلغ من وزنه في 10 أيام.

في المستشفى بدأت أستعيد رويداً رويداً ما حدث لي. ساعة بعد ساعة راحت الأوجاع في جسمي تشتد وأنا أتماثل إلى الشفاء، في نفسي تنبعث نوبات متلاحقة من الألم والغضب الهستيري الذي أخرجته صراخاً وشتائم، فيهرع الممرضات والأطباء لتهدئتي. ظللت يومين أطلق بين ساعة وأخرى نوبات غضبي الهستيري الذي يمزّق أعصابي. في اليوم الثالث والرابع هدأتُ، ودخلت في نوبة حزن عميق صامت، يتخلله بكاء ونشيج، وذكريات لرفاقي المفقودين، منهم ابن بلدتي تنورين، عادل ضومط المختفي منذ 13 تشرين 1990. تخيلت أنهم تعرّضوا ويتعرضون لما عرفته في البوريفاج.

خرجت من المستشفى مصاباً بتمزق في غشاء المعدة، لأتناول له دواءً دائماً. أما فقرة ظهري التي انحرفت من مكا نها، فتحتاج إلى علاج مدى عمري كله. وها أنا حتى اليوم مصاب بأرق وقلق ليليين يمنعانني من النوم قبل الساعة الثانية أو الثالثة من الليل، رغم تناولي أقراصاً منومة ومهدئة على الدوام.

أمضيت أسبوعين منعزلا في بيت امرأة من أقاربنا، لا أقابل أحداً. واصابني عارض إيماني، فرحت أصلي وأصلي شاكراً الله على نجاتي. لكن هذه الحال سرعان ما تلاشت، بعدما عدت إلى حياتي العادية وعملي في مركز المعلوماتية التابع للجامعة اللبنانية.
بعد أيام أتت دورية من الشرطة العسكرية اللبنانية إلى إدارة الجامعة، فاعتقلني عناصرها وقادوني إلى سجن "قصر نورا" في سن الفيل. في النهار التالي أتاني ضابط بمحضر وقال إن عليّ أن أوقعه، قبل أن يحقق معي أحد ويسألني سؤالاً واحداً. رفضت الاطلاع على المحضر وتوقيعه. أمضيت في سجن "قصر نورا" شهراً و20 يوما، أطلق بعدها سراحي، ليصدر في حقي حكم بسجني المدة نفسها، بتهمة التحريض على الفتنة والقيام بأعمال إرهابية.

في نهار خروج مفرزة المخابرات السورية ورحيلها عن الرملة البيضاء في نيسان 2005، ذهبت إلى هناك، فصادفت موكب رستم غزالي يعبر أمام المقر في سيارته المرسيدس السوداء. كنت مع صديقي محمد خالد، أحد نزلاء المقر، بعد اعتقاله على حاجز للجيش السوري في الضاحية الجنوبية.

ودخلت أفتش عن زنزانتي التي أمضيت فيها أيامي العشرة. إهتديت إليها، فأضأت هاتفي الخليوي وقربته من الجدار فوق بابها، وقرأت العبارة - الوصية التي حفرتها بكسرة صحن البلاستيك قبل 11 سنة: أنطوان الخوري حرب شهر 11 - 1994، ثم التقطت صورة لوصيتي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها